فلسفة بلانشوت في مفهومي الموت ويوجد

اقرأ في هذا المقال


كان موريس بلانشوت قائدًا فرنسيًا لما قبل الحرب حق الشباب (The Young Right) وفيلسوفًا ومنظرًا أدبيًا وكاتبًا للرواية، وكان بلانشوت كاتبًا حديثًا بشكل واضح كسر الحدود العامة لا سيما بين الأدب والفلسفة.

فلسفة بلانشوت وأنواع الموت:

النوع الأول للموت:

إنّ وصف بلانشوت لما يسمى بنوعين من الموت هو عنصر معروف جيدًا في نقده الأدبي في الخمسينيات ونقطة تركيز متكررة في حواره المستمر مع فلسفات هيجل وهايدجر، فبالنسبة لهيجل كما يلاحظ بلانشوت إنّ الموت هو ما ينتج كل إمكانية للمعنى في العالم من خلال العمل كمحفز للديالكتيك نفسه.

يتم تشغيل الموت باستمرار ثم يتعافى لاحقًا في نظام هيجل ويقود التاريخ نحو نقطة الذروة الحتمية، وبالنسبة إلى هايدجر يرتبط الموت أيضًا بمفهوم الاحتمال، وبشكل أكثر تحديدًا يتم تفسيرها في الكينونة والوقت على أنّها إمكانية الفرد وهي إمكانية غير قابلة للتحويل ولا يمكن تجاوزها، كما إنّها تشكل أساس الوجود الأصيل لـ أن يكون هناك (Dasein).

النوع الثاني للموت:

في كتاباته لا يعارض بلانشوت بشكل مباشر روايات الموت هذه، وما يقترحه بلانشوت مع ذلك هو أنّ هناك أيضًا جانبًا آخر للموت تقوم هذه الفلسفات بتهميشه أو استبعاده، وإنّه جانب تُعلق فيه القوة وإمكانية الموت، فهذه هي الظاهرة التي يسعى راينر ماريا ريلكه في رسالة من عام 1910 إلى الشهادة بالكلمات: “لا شيء ممكن بالنسبة لي بعد الآن ولا حتى الموت، وهنا كل رغبة في موت بارع محقق لذاته، ويتم إحباطه من خلال إدراك أنّ الموت في الواقع لا يمكن للذات الوصول إليه أبدًا”.

بطريقة تشبه إلى حد ما أبيقور يجادل بلانشوت بأنّ هذا النوع الثاني من الموت لا يمكن قياسه مع أي تجربة ذاتية أو شخصية، وفي تعليقه على الموت في فضاء الأدب كتب بلانشوت: “ليس لدي علاقة به حيث إنّه ما لا أستطيع الذهاب إليه لأنني فيه لا أموت، ولقد سقطت من قوة الموت، وفيه يموتون، وإنّهم لا يتوقفون ولا يكملون الموت”، وهكذا فإنّ الموت الذي يرتبط بهيجل وهايدجر بالاحتمال يتناقض مع آلام الموت المجهول وهو أمر مستحيل بالنسبة للذات، ولا يمكن لأي شخص أن يتم إرادته أو السيطرة عليه أو حتى الخضوع له في الوقت الحاضر.

من خلال توضيح هذه الازدواجية المرتبطة بمفهوم الموت يستطيع بلانشوت تحدي كل من هيجل وهايدجر في النقاط الأساسية في فلسفتهما، فإذا كان الموت يحتوي في حد ذاته على أثر اللاشخصية هذا الذي يطرد كل محاولات السيادة واللياقة والسلطة فإنّ عواقب ذلك ستكون كبيرة.

كما يجب الآن فهم ما يسمى بعمل المفهوم في هيجل والذي يقوده الموت على أنّه مصحوب بصمت بالبطالة والاستحالة، وبالمثل في سياق فكر هايدجر إذا كان الموت مزدوجًا فلا يمكن أن يكون الموت حقيقيًا أو أصيلًا تمامًا، وعلى النقيض من جميع الفلسفات بالعودة إلى أفلاطون حيث يُعادل الموت بالحقيقة أو الوجود أو الاكتمال يسعى بلانشوت بالتالي إلى التأكيد على الخطأ والغياب والقابلية للانتهاء المرتبطة بالموت، وباختصار يُظهر بلانشوت أنّ الموت يظل مفهومًا غير قابل للتحديد جذريًا أو متقلبًا ولا يشكل تضمينه في أي نظام تحديًا للتماسك النظامي فحسب بل يمثل أيضًا تحديا نهائيا.

مفهوم (il y a):

يظهر مفهوم (il y a) والذي يعني (يوجد) وبشكل بارز في جميع كتابات بلانشوت ويشتمل على واحدة من أكثر الروابط المباشرة بين نصوصه ونصوص الفيلسوف إيمانويل ليفيناس المبكرة، وعلى الرغم من أنّ مجاز  (il y a) يظهر في كتابات بلانشوت الأدبية التي يعود تاريخها إلى منتصف ثلاثينيات القرن العشرين (الكلمة الأخيرة)، فإنّ نشرها المبكر الأكثر أهمية حدث في رواية بلانشوت توماس الغامض (Thomas the Obscure)، والتي أشار إليها ليفيناس صراحةً في نصه عام 1947، الوجود والموجود.

وهكذا قام بلانشوت وليفيناس بتطوير مفهوم (il y a) إلى حد ما بالترادف خلال الفترة المعنية مما يؤثر على بعضهما البعض، بينما يقترحان تدريجيًا نقاط تركيز مختلفة بمهارة في استخداماتهما الخاصة للعبارة.

سمات مفهوم (il y a):

يتميز (il y a) بسمتين متناقضتين على ما يبدو وهما:

1- أولاً إنّه ينطوي على وجود غياب الوجود.

2- ثانيًا يشير إلى حتمية الوجود أو مقاومته الجذرية للنفي.

مفهوم (il y a) والحالة الوجودية لدى بلانشوت:

من أجل صياغة هذه المفاهيم الصعبة يتفاعل بلانشوت وليفيناس بشكل نقدي مع تفسير الأنطولوجيا الأساسية المقدمة في كينونة هايدجر والزمان، وعلى النقيض من إصرار هايدجر على أولوية الوجود في العالم يسعى بلانشوت وليفيناس إلى التعبير عن حالة وجودية أكثر بدائية أي حالة تنطوي على فكرة عدم الانغلاق على كل الأشياء حيث إنّها دولة تتميز بالغياب المطلق للعالم.

في خضم هذا العالم يتلاشى العالم وإمكانياته تاركًا البقايا الملموسة التفرد المسبق للوجود بحد ذاته، فلقد انتهى الكرم الأصلي لـ (هبة الوجود) الهايدجري، وفي مكانه يؤكد بلانشوت وليفيناس على الرعب المدقع لكائن بلا هدف وإخفاء الهوية المطلق واليقظة المصابة بالأرق، وهكذا فإن حرف (il) يعني شيئًا قديمًا أكثر من الاختلاف الوجودي، كما إنّه ينطوي على حالة تخدم بشكل تخريبي كشرط لإمكانية واستحالة التمييز الهايدجري بين الوجود (Sein) والكائنات (das Seiende).

إنّ وضع الخدمة كشرط للإمكانية والاستحالة هو في الواقع أمر حاسم لمفهوم (il y a) كنقطة تأسيسية، وتُظهر المشكلة نفسها لتقويض الأشياء ذاتها التي تحددها، ونظرًا لأنّه يعمل كشرط لجميع الافتراضات سواء أكانت إيجابية أم سلبية فإنّ ذلك يظل بالضرورة محصنًا أمام قوة النفي، وعندما يتم إبطال كل شيء آخر (في نهاية التاريخ) تبقى نفخة من لا يمكن تدميرها.

علاوة على ذلك إلى الحد الذي يخدمه كشرط لعالم الأشياء فإنّه يشكل تهديدًا حتميًا لمعنى ومعنى العالم نفسه، ومن خلال مواجهة العالم بفراغ غير موضوعي يسبقه ويتجاوزه، فالأمر هو ما يقاطع وجود هايدجر في العالم وديالكتيك هيجل من خلال تعريضهما لشيء غريب وغير قابل للفهم ولكنه بالضرورة حميمي وغامر.

مفهوم (il y a) وعلاقته بالأدب في فلسفة بلانشوت:

يبدأ بلانشوت في التحرك بمهارة إلى ما وراء حدود تفسير ليفيناس للأمور عندما يحول هذه المناقشة مرة أخرى نحو مسألة الأدب، فوفقًا لبلانشوت إنّ ما يسعى إليه الأدب كهدف له ليس سوى حالة التفرد ما قبل الإدراك، ويصر بلانشوت على أنّ الأدب يسعى إلى أن يشهد لا للمعنى الدنيوي والحقيقة المفاهيمية ولا للتجربة الذاتية بل على حالة تسبق كل معنى وحقيقة وتجربة ذاتية.

وبالتالي فإنّ الأدب مشروط بالعلل ويهدف إلى العودة إليه، وهذا هو ما يمنح العمل الأدبي مكانته الفريدة في فكر بلانشوت: أي من أجل الوجود يجب أن يحتوي العمل الأدبي بالضرورة داخل نفسه على نفخة (il y a) (أصل العمل) والتي هي مرادفة لغياب العمل، وهكذا يحتوي العمل في ذاته على أثر انحلاله لأنّ ما يجعله ممكنًا يضعه أيضًا على اتصال مع استحالة نفسه، وهذا التركيز على الاستدارة هو جانب أساسي من تفسير بلانشوت الفريد لـ (il y a)، وهو دائري يتطلب على الرغم من الدوار الذي ينطوي عليه تأكيده بشكل جذري.

تستمر الإشارات الدورية في الظهور بشكل جيد في كتابات بلانشوت اللاحقة، ومع ذلك فإنّ أهميتها باعتبارها مجازًا تم استبدالها إلى حد كبير منذ أوائل الستينيات فصاعدًا بمفهوم زائف أكثر استفزازًا يسميه بلانشوت (المحايد)، في حين أنّ البقايا تقع اسميًا على الأقل داخل اقتصاد الوجود والعدم (حتى عندما تتحدى هذا الاقتصاد)، فإنّ المحايد يعلق مسألة الوجود أو اللاوجود تمامًا ويظل غير قابل للاختزال جذريًا لأي علم الوجود على الإطلاق.

بينما تستحضر كتابات بلانشوت وليفيناس في كتابات بلانشوت وليفيناس الأرضية التي لا أساس لها من الصحة لكل الوجود، أو كما يصفها بلانشوت استحالة عدم الوجود فإنّ المحايد يشير إلينا أبعد من ذلك نحو حدود الفلسفة ذاتها.


شارك المقالة: