قدم جيل دولوز العديد من المساهمات الأدبية وقد تم تخصيص بعض أعماله لتكريم أعمال الممارسين الآخرين، بينما استندت بعض الأعمال الأخرى إلى فلاسفة مثل ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وكذلك الفيلسوف سبينوزا وفريدريك فيلهيلم نيتشه وبرغسون وفوكو.
قراءة فلسفة دولوز التجريبية:
في عام 2008 تم افتتاح دولوز في المعجم الفلسفي لكتاب دانيال دينيت، وهو عبارة عن مجموعة من التعاريف القاموسية الساخرة في كثير من الأحيان والتي تستند إلى أسماء الفلاسفة، فلقد عانى من الوهم بأنّ سبينوزا يمكن أن يستخدم لتوضيح التحليل النفسي اللاكاني، وإذا كان هذا الدخول إلى المعجم ذكيًا قليلاً فذلك لأنّ المهتمين بدولوز يدركون جيدًا أنّ هذا هو بالضبط كيف ينظر إليه المجتمع الفكري الأوسع، ويحظى بإعجاب الكثيرين ولكنه مكروه من قبل أكثر.
هناك بالطبع أسباب لماذا انتشرت على نطاق واسع وجهة النظر هذه عن دولوز باعتباره دوغمائيًا من القرن العشرين خالٍ من الأدلة والبراهين، فأولاً من الصعب للغاية قراءة أعمال دولوز، وقد تم العثور على أهم الحجج والدفاع عن منصبه في أعماله الرئيسية (الفرق والتكرار ومنطق المعنى)، وهذان على وجه الخصوص جبال صعبة التسلق، وفي هذه الأعمال تم بناء الأساس لأعماله اللاحقة الأكثر سياسية وأسهل قراءة هامشية مثل مكافحة أوديب (Anti-Oedipus) وألف هضبة (A Thousand Plateaus).
عندما يتم تجاهل أهمية هذه الأعمال السابقة فإنّ تفسيرات ومناقشات هذه الأعمال اللاحقة تعاني بشكل كبير، وعلى الرغم من الكم الهائل من الأعمال التي كُتبت عن دولوز في العقدين الماضيين إلّا أنّه ليس من السهل العثور على مقدمة جيدة لفلسفته، فكان هناك فشل عام في الأدبيات المتعلقة بفكر دولوز في إبراز المشاكل الفلسفية التي بحث فيها بالضبط، وكيف جادل بالضبط في الاستنتاجات الفلسفية التي توصل إليها، ويبدو أنّه لا توجد مشكلة في شرح استنتاجاته ولكن المناقشات اللائقة حول كيفية وصوله إلى تلك الاستنتاجات يصعب العثور عليها.
بالنظر إلى هذا الفراغ في الأدبيات وصعوبة المصادر الأولية فمن غير المفاجئ أن يتم نشر مثل هذه النظرة لدولوز في المجتمع الفلسفي، ومع ذلك لا يزال هناك الكثير منا يعتقد أنّ مثل هذه النظرة لدولوز هي سوء فهم كبير، وأنّ هناك الكثير على المحك في تحقيق دولوز الفلسفي والذي يمكن أن يساهم في العديد من المناقشات المعاصرة التي تم استبعاد فكره منها حاليًا.
الفلسفة التجريبية بين سبينوزا ودولوز:
في حين أنّ الفيلسوف ديفيد هيوم قد لا يكون اسمًا مثيرًا للجدل لربطه بتجريبية عميقة، فإنّ بنديكت دي سبينوزا (Benedict de Spinoza) هو بالتأكيد كذلك، ويعتبر سبينوزا عمومًا العقلاني اللدود بامتياز وهو معروف جيدًا بأول أطروحة رئيسية مقترحة في كتابه الأخلاقي، حيث أنّ هناك مادة واحدة وهي الله أو الطبيعة، وأنّ كل ما هو موجود هو مجرد تعديل لهذه المادة.
يتكون أسلوبه في الكتابة المعروف باسم (الطريقة الهندسية) من الافتراضات والبراهين والبديهيات، وإنّ وجهة النظر هذه بالكاد تبدو متسقة مع البناء الجذري للمفاهيم والبراغماتية الأساسية، ومع ذلك هذا ما كان تفسير دولوز لسبينوزا مؤثرًا للغاية (كما توضح النصوص الحديثة مثل تلك التي كتبها جينيفيف لويد ومويرا جاتنز) ويجادل بأنّ سبينوزا هو بلا شك الفيلسوف الذي أشاد به دولوز وأشار إليه، وغالبًا بكلمات نادرًا ما تكون جزءًا من الكتابة الفلسفية، فمثلًا قال: “سبينوزا بالنسبة لي هو أمير الفلاسفة، وسبينوزا وهو الفيلسوف المطلق الذي تعتبر أخلاقياته أول كتاب في المفاهيم”.
ولكن ليس فقط أخلاق دولوز فقد خلق مستوى من المحايثة، بل هو إنشاء نظام كامل من المفاهيم الجديدة التي تدور حول رفض المتعالي في جميع مجالات الحياة، وإنّ وحدة الأنطولوجيا والأخلاق أمر حاسم بالنسبة لدولوز في فهم سبينوزا أي لم يخول سبينوزا كتابه علم الوجود، فهو ماهر جدًا في ذلك فهو يخوله الأخلاق، وهي طريقة لقول ذلك مهما كانت أهمية افتراضاتي التخمينية، فلا يمكنك الحكم عليها إلّا على مستوى الأخلاق التي يغلفونها أو يشيرون إليها الافتراضات.
نظريات العلمية للأخلاق:
باختصار كما يشير عنوان أحد كتب دولوز في سبينوزا الفلسفة العملية فإنّ الأخلاق لا تُفهم إلّا عندما يُنظر إليها، وفي نفس الوقت على أنّها نظرية وعملية، ويرى دولوز أنّ هناك ثلاث نقاط نظرية-عملية أساسية في الأخلاق وهي: الوعي والقيم والعواطف الحزينة.
وهم الوعي حيث يجادل سبينوزا بأننا لسنا سبب أفكارنا وأفعالنا ولكننا نفترض فقط أننا نعتمد على تأثيرها علينا، وهذا يؤدي إلى ثنائية الجوهر (مثل انقسام العقل أو الجسم لدى الفيلسوف ديكارت)، ويصر دولوز على هذه النقطة لأنّه يرى أنّ سبينوزا يتخطى وهمًا مهمًا من الذاتية حيث نفترض أننا أسباب وليس نتائج.
كما إنّ وهم الوعي بالنسبة لسبينوزا نتيجة للمعرفة غير الكافية والتأثيرات المحزنة، ويسمح لنا بفرض وعي متعالي ويفترض أنّه خالٍ من تدخلات العالم (كما في ديكارت)، وهذه في الواقع نقطة عمياء تمنعنا من معرفة أنفسنا على أنّها سبب والمعنى العملي لها هو أننا ننكر اشتراكيتنا، كأسلوب واحد من بين أنماط أخرى وأهمية العلاقات التي ندخل فيها والتي في الواقع تحدد قدرتنا على التصرف وقدرتنا على تجربة الفرح النشط.
والثاني هو نقد الأخلاق حيث تشكل أخلاقيات سبينوزا بالنسبة لدولوز رفضًا للتمييز المتسامي بين الخير والشر لصالح معارضة وظيفية فقط بين الخير والشر، فالخير والشر بالنسبة لسبينوزا ولوكريتيوس وفريدريك فيلهليم نيتشه هي أوهام النظرة الأخلاقية للعالم التي لا تفعل شيئًا سوى تقليل قدرتنا على التصرف وتشجع تجربة المشاعر الحزينة.
الأخلاق بالنسبة لدولوز هي بالأحرى تحريض على النظر في المواجهات بين الأجساد على أساس صلاحها النسبي لتلك الأنماط المرتبطة، ويدخل القرش في علاقة جيدة بالمياه المالحة مما يزيد من قدرته على التصرف، ولكن بالنسبة لأسماك المياه العذبة أو لشجيرة الورد فإنّ المياه المالحة لا تؤدي إلا إلى تدهور العلاقات المميزة بين أجزاء الأدغال وتهدد بتدمير وجودها.
لذلك ليس للأفعال مقياس متسامي يمكن قياسه (الوهم اللاهوتي)، ولكن فقط التقييمات النسبية والجيدة والسيئة بناءً على هيئات محددة، وهكذا فإنّ الأخلاق بالنسبة لدولوز هي علم السلوك أي دليل للحصول على أفضل العلاقات الممكنة للأجساد.
أخيرًا يرى دولوز في سبينوزا رفض المشاعر الحزينة وهذه النقطة مرتبطة بالنقطة الأخيرة، ومرة أخرى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنقد نيتشه للتشاؤم وأخلاق العبيد، فالمشاعر المحزنة لسبينوزا هي كل تلك القوى التي تحط من قدر الحياة، وبالنسبة لدولوز فإنّ سبينوزا يستنكر كل تزوير الحياة وكل القيم التي باسمها نستخف بالحياة، فنحن لا نعيش ونحن نعيش فقط مظهرًا من مظاهر الحياة، ولا يسعنا إلّا أن نفكر في كيفية تجنب الموت وحياتنا كلها هي عبادة الموت.
المفصلة التي تشغلها هذه القراءة العملية لسبينوزا هي زاوية مقاربة دولوز للأخلاقيات، وبدلاً من التأكيد على الهياكل النظرية العظيمة الموجودة في الأقسام القليلة الأولى، فقد أكد دولوز على الجزء الأخير من الكتاب (خاصة الجزء الخامس) والذي يتكون من حجج من وجهة نظر الأنماط الفردية، ويضع هذا النهج الأهمية على واقع الأفراد بدلاً من الشكل وعلى الجانب العملي وليس النظري.
في مقدمة الترجمة الإنجليزية للتعبيرية في الفلسفة أوضح بأنّ أكثر ما أثار اهتمامه في سبينوزا لم يكن مادته بل تكوين الأنماط المحدودة، وتعد قراءة دولوز لسبينوزا لها علاقات واضحة وعميقة مع كل ما كتبه بعد عام 1968 وخاصة مجلدي الرأسمالية والفصام.