الاختلاف والتكرار الذي نشر في عام 1968 هو بلا شك أهم كتاب للفيلسوف جيل دولوز في الأسلوب الأكاديمي التقليدي، ويقترح أهم اضطراباته في التقاليد الكنسية للفلسفة، ومع ذلك ولهذا السبب على وجه التحديد فهو أيضًا أحد أصعب كتبه، حيث يتعامل مع موضوعات فلسفية قديمة للغاية والهوية والوقت ومع طبيعة الفكر نفسه.
الاختلاف في ذاته:
الهدف الرئيسي لدولوز في الاختلاف والتكرار هو تطوير إبداعي لهذين المفهومين، ولكنه يسبقه أساسًا عن طريق نقد الفلسفة الغربية، حيث في أطروحته المركزية هي أنّ هذه الهوية ليست أولًا وأنّها موجودة كمبدأ ولكن كمبدأ ثان تصبح كمبدأ، وأنّها تدور حول الاختلاف حيث ستكون هذه هي طبيعة الثورة الكوبرنيكية التي تفتح إمكانية أن يكون للاختلاف مفهومه الخاص، وبدلاً من الحفاظ عليه تحت سيطرة مفهوم بشكل عام تم فهمه بالفعل على أنّه متطابق.
من أفلاطون إلى هايدجر يجادل دولوز بأنّه لم يتم قبول الاختلاف من تلقاء نفسه، ولكن فقط بعد فهمه بالإشارة إلى الموضوعات المتطابقة مع الذات مما يجعل الفرق بينهما، ويحاول في هذا الكتاب أن يعكس هذا الموقف ويفهم الاختلاف في ذاته.
يمكننا أن نفهم حجة دولوز من خلال الإشارة إلى تحليله لنظام أفلاطون ثلاثي المستويات للفكرة والنسخ والمحاكاة، ومن أجل تحديد شيء مثل الشجاعة يمكن أن يكون لدينا إشارة في النهاية فقط إلى فكرة الشجاعة وهي مطابقة لنفسها، وهذه الفكرة لا تحتوي على أي شيء آخر، وبالتالي يمكن الحكم على الأفعال الشجاعة والأشخاص من خلال القياس مع هذه الفكرة، ومع ذلك هناك أيضًا أولئك الذين يقلدون الأعمال الشجاعة فقط وأشخاص يستخدمون الشجاعة كواجهة لتحقيق مكاسب شخصية على سبيل المثال.
هذه الأفعال ليست نسخًا من المثل الأعلى الشجاع بل هي بالأحرى مزيفة وتشويه للفكرة، وإنّها ليست مرتبطة بالفكرة عن طريق القياس، ولكن عن طريق تغيير الفكرة نفسها وجعلها تنزلق، وكثيرًا ما يطرح أفلاطون حججًا مبنية على هذا النظام كما يخبرنا دولوز من رجل الدولة (الراعي والملك الراعي والدجال) إلى السفسطائي (الحكمة والفيلسوف والسفسطائي).
التقليد الفلسفي بدءًا من أفلاطون وأرسطو انحاز دولوز إلى النموذج والنسخة، وحارب بحزم لاستبعاد المحاكاة من الاعتبار إما برفضها كخطأ خارجي، أو عن طريق استيعابها في شكل أعلى عن طريق تشغيل ديالكتيك.
في حين أنّ الاختلاف يخضع لنظام النموذج أو النسخ إلّا أنّه لا يمكن أن يكون إلّا اعتبارًا بين العناصر، مما يعطي للاختلاف تحديدًا سلبيًا تمامًا باعتباره ليس هذا، ومع ذلك يقترح دولوز إذا وجهنا انتباهنا إلى المحاكاة فإنّ عهد المطابقة والتماثل يتزعزع، فالمحاكاة موجودة في حد ذاتها دون التأريض أو الإشارة إلى نموذج حيث وجودها غير وسيط وإنّه بحد ذاته اختلاف غير وسيط، ولهذا السبب فإنّ دولوز يطرح ادعاءه المعروف أنّ الفلسفة الحقيقية للاختلاف يجب أن تكون مقلوبة أو مناهضة للأفلاطونية، كما إنّ وجود المحاكاة هو وجود الاختلاف نفسه، وكل محاكاة هي نموذجها الخاص.
قد نسأل هنا: ما الذي يوفر وحدة الاختلاف؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن وجود شيء هو الاختلاف نفسه؟ وإجابة دولوز هي أنّه على وجه التحديد لا توجد وحدة أنطولوجية جوهرية، ويتبنى هنا فكرة الفيلسوف فريدريك فيلهيلم نيتشه القائلة بأنّ الوجود يتحول حيث هناك اختلاف داخلي للذات داخل الاختلاف نفسه، ويختلف الاختلاف عن نفسه في كل حالة، وكل ما هو موجود يصبح ولن يكون أبدًا.
يخبرنا دولوز أنّ الوحدة يجب أن تُفهم على أنّها عملية ثانوية، ويتم بموجبها الضغط على الاختلاف في أشكال، فالفكرة الفلسفية البارزة التي يقدمها لمثل هذه الوحدة هي الوقت، ولكن لاحقًا في مكافحة أوديب (Anti-Oedipus) ودولوز وجوتاري يقدمون علم الوجود السياسي الذي يوضح كيف يتم تثبيت عملية التحول هذه في الصياغات الوحدوية.
كونترا هيجل:
عدو دولوز اللدود في الاختلاف والتكرار هو هيجل، وفي حين أنّ هذا الموقف النقدي واضح بالفعل في نيتشه والفلسفة ومن هناك في جميع أنحاء عمله، فإنّ إعادة تقييم دولوز للاختلاف نفسها تتخذ كأهم أشكالها رفض الديالكتيك الهيجلي الذي يمثل التطور الأكثر تطرفًا لمنطق المتطابق.
يخبرنا دولوز أنّ الديالكتيك يعمل على ما يبدو مع الاختلافات المتطرفة وحدها حتى بقدر الاعتراف بها كمحرك للتاريخ، ويتكون الديالكتيك من مصطلحين متعارضين مثل الوجود والعدم ويعمل من خلال توليفهما في مصطلح ثالث جديد يحافظ على المعارضة السابقة ويتغلب عليها، ويقول دولوز أنّ هذا طريق مسدود مما يجعل تحديد الشرط الكافي لوجود الاختلاف والتفكير فيه، وإنّه فقط فيما يتعلق بالمطابقة كدالة للمطابقة، فإنّ التناقض هو أكبر فرق، فالثمالة والدوخة والغموض أمور واضحة منذ البداية، ولا شيء يُظهر هذا أكثر من المركزية أحادية الدوائر في الديالكتيك الهيجلي.
أثناء تقديم أداة فلسفية ترى الاختلاف في صميم الوجود فإنّ سيرورة الديالكتيك تزيل هذا التأكيد باعتباره أهم خطواتها، فالنتيجة الأخرى لهذا بالنسبة لدولوز تتعلق بمكان النفي في نظام هيجل، ويأخذ الديالكتيك في حركته العامة واختلافات محددة واختلافات في ذاتها وينفي كيانها الفردي، وفي طريقها إلى وحدة متفوقة، ويجادل دولوز في الاختلاف والتكرار بأنّ هذه الخطوة من أخطاء هيجل في الأنطولوجيا والتاريخ والأخلاق.
اشتهر هيجل بتأكيده على أنّ الديالكتيك النافي هو محرك التاريخ ويمضي نحو النهاية الكاريكاتورية للتاريخ في كثير من الأحيان وإدراك الروح المطلقة، وبالنسبة لدولوز التاريخ ليس له اتجاه تحقيق، وهذا مجرد وهم للوعي، وأخيرًا فيما يتعلق بالأخلاق يجادل دولوز بأنّ الأنطولوجيا القائمة على السلبية تجعل من التأكيد الأخلاقي احتمالًا ثانويًا مشتقًا: “التكوين الخاطئ للتأكيد، فإذا قيلت الحقيقة فلن يرقى أي من هذا إلى حد كبير لولا الافتراضات الأخلاقية والآثار العملية لمثل هذا التشويه”.
صورة الفكر:
يقدم الفصل الثالث من الاختلاف والتكرار مقاربة جديدة لمسألة مهمة في الفلسفة وهي مشكلة الافتراضات، وتابع دولوز هذا الموضوع مرة أخرى لاحقًا في هضبة ألف (A Thousand Plateau)، وعندما كتب عن الشخصية المفاهيمية في ما هي الفلسفة؟ كان قد كتب بالفعل على صور الفكر في نيتشه والفلسفة وبروست والعلامات.
بالنسبة إلى ديكارت الفكر له توجه طبيعي نحو الحقيقة تمامًا كما هو الحال بالنسبة لأفلاطون، وينجذب العقل بشكل طبيعي نحو العقل ويتذكر الطبيعة الحقيقية لما هو موجود، وهذه بالنسبة لدولوز صورة فكرية، وعلى الرغم من أنّ صور الفكر تتخذ الشكل الشائع لـ(لجميع يعرف) فهم ليسوا واعين بشكل أساسي، وبدلاً من ذلك فهم يعملون على مستوى الاجتماعي واللاوعي ويعملون بشكل أكثر فاعلية في صمت.
يقوم دولوز بتحليل شامل للصورة الفلسفية التقليدية للفكر ويضع قائمة بثماني سمات في جميع جوانب السعي الفلسفي، وتنطوي على تبعية الفكر للتوجيهات المفروضة خارجيًا، ويتضمن الطبيعة الجيدة للفكر وأولوية النموذج أو الاعتراف كوسيلة للفكر وسيادة التمثيل على العناصر المفترضة في الطبيعة والفكر وإخضاع الثقافة للطريقة (أو التعلم للمعرفة)، وكل هذه تشير إلى طبيعة بدائية للفكر وغاية ومعنى ومنطق للممارسة.
هذا العنصر في الاختلاف والتكرار هو الذي أسس نقد دولوز الأكثر جدية للصورة التقليدية للفكر، كما أنّه يفشل في التصالح مع الطبيعة الحقيقية للاختلاف والتكرار، ونتيجة لذلك من العدل أن نقول إنّ هذه اللحظة من الكتاب ضرورية لفهم الطريقة التي يريد بها دولوز أن يؤسس تقييمه للفلسفات التقليدية للهوية والوقت، وكيف يرغب في تجاوزهما من حيث إعادة صياغته للاختلاف، وقد أصبح التكرار ممكناً من خلال هذا النقد.
فيما يتعلق بهيجل فإنّ نقطة الاهتمام الحقيقية هي أنّ هذه الصورة الفكرية تخدم القوى العملية والسياسية والأخلاقية، وهي ليست مجرد مسألة فلسفة وفي عزلة عن بقية العالم، وبالنسبة للسؤال لماذا لدينا هذه الصورة من الفكر؟ حيث دولوز جنبًا إلى جنب مع نيتشه أنّها صورة أخلاقية وهي في خدمة السلطة، ولكن هناك أيضًا مشكلة جوهرية أكثر في التفكير نفسه، وهذا هو فقط تم تطويره بالكامل في خاتمة ما هي الفلسفة؟ وهذا الفكر بحد ذاته خطير.
في تناقض مع الخير الطبيعي للفكر في الصورة التقليدية يجادل دولوز للفكر باعتباره لقاء: “شيء ما في العالم يجبرنا على التفكير”، وهذه المواجهات تواجهنا بعجز الفكر نفسه وتثير الحاجة إلى التفكير في الإبداع من أجل التعامل مع عنف وقوة هذه المواجهات، ولقد تطورت الصورة التقليدية للفكر تمامًا كما يجادل نيتشه حول تطور الأخلاق في علم الأنساب من الأخلاق، كرد فعل على التهديد الذي تقدمه هذه اللقاءات، ويمكننا إذن أن نعتبر الصورة التقليدية للفكر على وجه التحديد أحد أعراض قمع هذا العنف.