كان دونالد ديفيدسون فيلسوفًا أمريكيًا من القرن العشرين، وكان تأثيره الأكثر عمقًا على الفلسفة المعاصرة في فلسفة العقل والفعل، حيث يرى أنّ الظواهر العقلية تقاوم أن تكون مأخوذة في الشبكة الاسمية للنظرية الفيزيائية.
شذوذ العقلية:
ببساطة الشذوذ العقلي يرقى إلى الادعاء بأنّ العقل لا تحكمه القوانين كما نفهمها عادة، وبكلمات ديفيدسون الخاصة يقول: “لا توجد قوانين حتمية صارمة على أساسها يمكن التنبؤ بالأحداث العقلية وتفسيرها”، وفي تطوير موقفه يحاول ديفيدسون الاحتفاظ بماديته مع تجنب الاختزال في نفس الوقت، وعادة ما يُعتقد أنّ الاختزال يتبع المادية.
أنواع القوانين لتفسير الأحداث العقلية:
عندما يؤكد ديفيدسون أنّه لا يمكن أن تكون هناك قوانين يمكن على أساسها التنبؤ بالأحداث العقلية وتفسيرها، فإنّه يضع في ذهنه نوعين مختلفين من القوانين وهما:
1- في النوع الأول من القانون جرت محاولة لربط الحالات والأحداث العقلية بالحالات والأحداث المادية، ويستخدم القانون لشرح الأول على أساس الأخير، وينفق ديفيدسون الكثير من جهوده في الأحداث العقلية لإظهار استحالة وجود مثل هذه القوانين النفسية الفيزيائية.
2- في النوع الثاني من القانون هناك محاولة لصياغة قوانين حتمية صارمة تربط الحالات والأحداث العقلية بالحالات والأحداث العقلية الأخرى، وينكر ديفيدسون إمكانية وجود هذه القوانين النفسية أيضًا، ويعتبر ادعاء ديفيدسون الأخير رفضًا للهدف الأساسي لعلم النفس.
ديفيدسون صريح تمامًا في أنّ هجومه يستهدف قوانين نفسية فيزيائية وليس إلى تعميمات نفسية فيزيائية حقيقية، حيث إنّ الأطروحة هي بالأحرى أنّ الذهن غير قابل للاختزال من الناحية الاسمية، وقد تكون هناك عبارات عامة حقيقية تتعلق بالعقلية والجسدية، وهي تصريحات لها الشكل المنطقي للقانون، ولكنها لا تشبه القانون (بمعنى قوي يجب وصفها)، وإذا كان علينا بالصدفة البعيدة السخيفة أن نتعثر في تعميم نفسي فيزيائي غير احتمالي وصحيح فلن يكون لدينا سبب لتصديقه أكثر من كونه صحيحًا تقريبًا، ولن يكون لدينا أي سبب للاعتقاد بأنّه كان قانونًا.
باتباع هذا الرأي من المهم أن نضع في اعتبارنا حقيقة أنّ ما إذا كان أي تعميم نفسي فيزيائي صحيحًا هو مسألة عرضية وتجريبية، وأنّه من الأمور المسبقة لديفيدسون أنّه لا يمكن أن يكون مثل هذا التعميم قانونًا، ويمكن العثور على الفكرة الأساسية لحجة ديفيدسون ضد إمكانية وجود قوانين نفسية فيزيائية في أحد المقاطع التي تعود إليه، حيث يرى أنّ تجمع البيانات الاسمية بين المسندات التي من المعروف أنّها مسبقة معدة لبعضها البعض، وتعرف أي بشكل مستقل عن معرفة ما إذا كان الدليل يدعم العلاقة بينهما، وإذا تمكنا من معرفة وقت تقديم المسندات لبعضنا البعض فيمكننا أن نعرف بنفس الرمز عندما لا تكون كذلك.
حجة ديفيدسون حول لمسندات العقلية والبدنية:
يجد ديفيدسون أنّه من الحقائق المسبقة أنّ المسندات العقلية والبدنية ليست مصنوعة لبعضها البعض، وهنا هيكل حجته حيث أنّ:
1- كل من الظواهر العقلية والفيزيائية لها مجموعات مميزة من السمات المميزة لمجالاتها الخاصة، ولكن هذه الميزات غير متوافقة مع بعضها البعض.
2- من شأن قوانين التجسير التي تربط الخصائص من خطابين نظريين متمايزين (في هذه الحالة عقلي وجسدي) أن تنقل الخصائص من خطاب إلى آخر، مما يؤدي في حالة الظواهر العقلية والفيزيائية إلى عدم الترابط.
3- لذلك لا توجد قوانين نفسية فيزيائية تربط بين الظواهر العقلية والجسدية.
المواقف الافتراضية:
وفقًا لديفيدسون فإنّ المعيار النموذجي للأحداث العقلية هو قابليتها للتأثر بالوصف من حيث مفردات المواقف الافتراضية، والمواقف الافتراضية أو الحالات المتعمدة كما يطلق عليها أحيانًا هي مواقف معرفية مختلفة، بحيث يمكننا أن نأمل في أن يكون الاقتراح (p) صحيحًا، ويمكننا أن نخشى أن يكون (p) صحيحًا، ويمكننا أن نرغب في أن يكون (p) صحيحًا وما إلى ذلك، ويمكن أن يكون لديك أنا وأنت مواقف مختلفة تجاه اقتراح الثلج أبيض، وآمل أن يكون الثلج أبيض، بينما تعتقد أنّه كذلك ولكن لا تأمل أن يكون كذلك، والافتراض نفسه أي أنّ الثلج أبيض، ويقال إنّ المرء لديه موقف تجاهه يعطي المحتوى للحالة العقلية للفرد.
المواقف الافتراضية لها سمات معينة (أو مقيدة بمبادئ معينة) تميزها عن الحالات والأحداث المادية، حيث تسترشد نظرية ديفيدسون في المواقف الافتراضية بالاستنتاجات المستمدة من مشروع التفسير الراديكالي وهو مشروع بدأه كواين، فتخيل أنك قابلت مجموعة من الأشخاص في أرض غير مألوفة يظهرون لك ما يبدو لك على أنّه سلوك لفظي وغير لفظي مشترك، وماذا يقصدون عندما يشيرون إلى أرنب يجري بجواره ويقولون: “جافاجاي”؟
إنّ تفسير سلوكهم من خلال تعيين معنى لأفعالهم (التي تعتبر الأقوال اللغوية فئة فرعية منها) هي مهمة التفسير الراديكالي، ولا تختلف المبادئ والتقنيات التي سنطبقها في الموقف الموصوف أعلاه عن المبادئ والتقنيات التي نطبقها بشكل شائع في تفسير أفعال وأقوال الآخرين الذين نشارك لغتهم بالفعل.
فالتفسير الراديكالي وفقًا لديفيدسون يسترشد بالمبادئ المعيارية ويجب أن يستمر بشكل كلي، حيث تهدف هذه الطريقة إلى حل مشكلة ترابط المعتقد والمعنى من خلال الحفاظ على الإيمان ثابتًا قدر الإمكان أثناء البحث عن المعنى، ويتم تحقيق ذلك من خلال تخصيص شروط الحقيقة للجمل الغريبة التي تجعل المتحدثين الأصليين على حق عندما يكون ذلك ممكنًا، وفقًا بالطبع لوجهة نظرنا الخاصة لما هو صواب.
هذه المبادئ المعيارية العامة التي توجه مهمة التفسير الراديكالي وبالتالي تقيد مهمة إسناد المواقف الافتراضية، هي مبادئ مثل: “لا تصدق تناقضًا مفتوحًا” أو مثل:”إذا كنت تعتقد أنّ (p) و (q)، فأعتقد أيضًا هذا (p)”، فمن المهم أن تضع في اعتبارك حقيقة أنّ الحالات المقصودة قادرة على تبرير حالات مقصودة أخرى.
في النظرية الفيزيائية تفسر حركة كرة واحدة بحركة الكرة الأخرى، حيث إنّ الاعتقاد بأنّ الضغط على الرافعة سيوقف تدفق المياه لا يفسر فقط عملي في إيقاف تدفق المياه. هذا الاعتقاد (إلى جانب الرغبة في إيقاف تدفق المياه) يبرر عملي أيضًا بمعنى أنّه يجعله معقولًا في ضوء الاعتقاد أعلاه، وقد أوضح ديفيدسون أنّه جزء مما يعنيه أن يكون الشيء موقفًا افتراضيًا (مثل الاعتقاد) أن يخضع لهذه الأمور المبادئ المعيارية، وهذا يجعل هذه المبادئ عنصراً أساسياً وضرورياً لمفهوم المواقف الافتراضية، وفي المقابل فإنّ معرفتنا بالأشياء المادية هي لاحقة وعرضية في الطبيعة.
حيث يقول ديفيدسون بانّه: “حتى الآن أمضينا وقتًا في شرح الطابع المعياري للعقلية وناقشنا أنّ التفسير يجب أن يستمر بشكل كلي”، حيث لا يوجد تخصيص للمعتقدات لشخص واحد على أساس سلوكه اللفظي أو اختياراته أو العلامات المحلية الأخرى بغض النظر عن مدى وضوحها، لأننا نفهم معتقدات معينة فقط لأنّها تتماشى مع المعتقدات الأخرى مع التفضيلات وبقصد وآمال ومخاوف وتوقع وبقية الأمور.
يمكن أن نرى الآن أنّ التفسير كلي بمعنى أنّ إسناد كل حالة عقلية فردية إلى شخص آخر يجب أن يتم على خلفية إسناد الحالات العقلية الأخرى، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإسناد إلى عامل النظام بأكمله من المواقف الافتراضية مقيد بشكل أكبر بالاعتبارات التي تنطوي على تعظيم الاتساق والعقلانية.