كان دونالد هربرت ديفيدسون فيلسوفًا أمريكيًا شغل منصب أستاذ الفلسفة في سلوسر في جامعة كاليفورنيا، وقد كان لعمله تأثير كبير في جميع مجالات الفلسفة تقريبًا منذ الستينيات فصاعدًا، ولكن بشكل خاص في فلسفة العقل وفلسفة اللغة.
هيكل النظرية الدلالية:
على الرغم من أنّ ديفيدسون كتب في مجموعة واسعة من الموضوعات، إلّا أنّ قدرًا كبيرًا من عمله لا سيما خلال أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات يركز على مشكلة تطوير نهج لنظرية المعنى يكون مناسبًا للغة الطبيعية، فالسمة المميزة لمقاربة ديفيدسون لهذه المشكلة هي اقتراحه بأنّ المعنى يمكن فهمه بشكل أفضل من خلال مفهوم الحقيقة، وبشكل أكثر تحديدًا أنّ الهيكل الأساسي لأي نظرية مناسبة للمعنى هو ذلك المعطى في نظرية رسمية للحقيقة.
تطور تفكير ديفيدسون حول النظرية الدلالية على أساس المفهوم الشامل للفهم اللغوي، وبالتالي فإنّ تقديم نظرية عن المعنى للغة هو مسألة تطوير نظرية تمكننا من إنشاء لكل جملة فعلية ومحتملة للغة المعنية ونظرية تحدد ما تعنيه كل جملة، وعلى هذا الأساس قد يُتوقع من نظرية المعنى للألمانية التي تم تقديمها باللغة الإنجليزية أن تولد نظريات تفسر الجملة الألمانية: “Schnee ist Weiss” بمعنى أن الثلجأبيض، ونظرًا لأنّ عدد الجمل المحتملة في أي لغة طبيعية لا حصر له فإنّ نظرية المعنى للغة التي يجب أن تكون مفيدة للمخلوقات ذات القوى المحدودة مثل أنفسنا.
كما يجب أن تكون نظرية يمكن أن تولد عددًا لا نهائيًا من النظريات (واحدة لكل منها الجملة) على أساس مجموعة محدودة من البديهيات، ففي الواقع أي لغة يمكن أن تتعلمها مخلوقات مثل أنفسنا يجب أن تمتلك هيكلًا قابلًا لمثل هذا النهج، وبالتالي فإنّ الالتزام بالكلية يستلزم أيضًا الالتزام بمنهج تركيبي يُنظر من خلاله إلى أنّ معاني الجمل تعتمد على معاني أجزائها، أي على معاني الكلمات التي تشكل الأساس المحدود للغة و تتكون الجمل منها.
إنّ التركيب لا يضر بالشمولية لأنّه لا يتبعها فقط، ولكن وفقًا لنهج ديفيدسون يمكن اعتبار الكلمات الفردية ذات معنى فقط لأنّها تلعب دورًا في الجمل الكاملة، وبالتالي فإنّ الجمل وليس الكلمات هي المحور الأساسي لنظرية دافيدسون عن المعنى، وإنّ تطوير نظرية للغة هو مسألة تطوير حساب منهجي للبنية المحدودة للغة التي تمكن مستخدم النظرية من فهم أي وكل جملة من اللغة.
ديفيدسون مفهوم الحقيقة:
توضح نظرية دافيدسون عن المعنى معاني التعبيرات بشكل كلي من خلال الترابط الذي يحصل بين التعبيرات داخل بنية اللغة ككل، وبالتالي على الرغم من أنّها بالفعل نظرية للمعنى فإنّ نظرية من النوع الذي يقترحه ديفيدسون لن يكون لها أي فائدة لمفهوم المعنى الذي يُفهم على أنّه كيان منفصل (سواء كانت حالة عقلية محددة أو فكرة مجردة) تشير إليها التعبيرات ذات المعنى، وأحد الآثار المهمة لهذا الأمر هو أنّ النظريات التي تولدها نظرية المعنى هذه لا يمكن فهمها على أنّها نظريات تتعلق بالتعبيرات والمعاني.
وبدلاً من ذلك ستربط هذه النظريات الجمل بجمل أخرى، وبشكل أكثر تحديدًا سيربطون الجمل في اللغة التي تنطبق عليها النظرية (لغة الكائن) بالجمل في اللغة التي تُصاغ فيها نظرية المعنى نفسها (اللغة الفوقية) بطريقة فالأخير يعطي معاني أو يترجم الأول بشكل فعال.
قد يُعتقد أنّ طريقة الوصول إلى نظريات من هذا النوع هي أن تتخذ الشكل العام لمثل هذه النظريات يعني أنّ (p) حيث تسمي جملة لغة الكائن و (p) جملة في اللغة الفوقية، ولكن من المفترض بالفعل أن نفترض أنّه يمكننا تقديم حساب رسمي لعبارة الربط (يعني ذلك)، ولا يبدو هذا غير مرجح فحسب بل يبدو أيضًا أنّه يفترض مفهوم المعنى عندما يكون هذا المفهوم بالضبط (على الأقل) لأنّها تنطبق في لغة معينة، حيث تهدف النظرية إلى توضيحها.
عند هذه النقطة يتحول ديفيدسون إلى مفهوم الحقيقة، ويجادل بأنّ الحقيقة مفهوم أقل غموضًا من مفهوم المعنى، وعلاوة على ذلك فإنّ تحديد الشروط التي تكون فيها الجملة صحيحة هو أيضًا طريقة لتحديد معنى الجملة.
وبالتالي بدلاً من جملة: “تعني أنّ (p)” يقترح ديفيدسون كنموذج لنظريات نظرية مناسبة للمعنى، وأن تكون جملة: “صحيحًا إذا وفقط إذا كان (p)” -استخدام عبارة الشرط: “إذا وفقط إذا” هو أمر حاسم هنا لأنّه يضمن التكافؤ الوظيفي للحقيقة للجمل (s) و (p)، أي أنّه يضمن أن يكون لهما قيم حقيقة متطابقة- وبالتالي فإنّ نظريات نظرية ديفيدسون عن المعنى للألمانية المصاغة باللغة الإنجليزية ستأخذ شكل جمل مثل: “الثلج أبيض” صحيحة إذا وفقط إذا كان الثلج أبيض.
اللغة والاتفاقية:
إنّ جوهر نظرية ديفيدسون للتفسير هو بالطبع نظرية الحقيقة الترسكية، لكن نظرية الحقيقة توفر فقط البنية الرسمية التي يقوم عليها التفسير اللغوي، حيث مثل هذه النظرية تحتاج إلى أن تكون جزءا لا يتجزأ من نهج أوسع ينظر إلى الترابط بين الأقوال والسلوك والمواقف الأخرى، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ تطبيق مثل هذه النظرية على السلوك اللغوي الفعلي يجب أن يأخذ في الاعتبار أيضًا الطابع الديناميكي والمتغير لمثل هذا السلوك.
ويسهل التغاضي عن هذه النقطة الأخيرة ولكنها تقود ديفيدسون إلى بعض الاستنتاجات المهمة، فالخطاب العادي مليء بالتركيبات غير النحوية كالإنشاءات التي قد يعترف المتحدث بأنّها غير نحوية حتى من قبل المتحدث نفسه، والجمل أو العبارات غير المكتملة والاستعارات والتعبيرات الجديدة والنكات، والتورية وجميع أنواع الظواهر التي لا يمكن تحقيقها ببساطة عن طريق التطبيق على الأقوال لنظرية موجودة مسبقًا للغة التي يتم التحدث بها.
ولا يمكن أن يكون الفهم اللغوي إذن مجرد مسألة تتعلق بالتطبيق الميكانيكي لنظرية شبيهة بالترسكي، على الرغم من أنّ هذا هو بالضبط ما يمكن أن يقترحه ديفيدسون في المقالات المبكرة، ففي أوراق مثل تشويه جميل من المرثيات (A Nice Derangement of Epitaphs 1986)، يعالج ديفيدسون هذه النقطة فقط بحجة أنّه في حين أنّ الفهم اللغوي يعتمد بالفعل على فهم البنية الشكلية للغة، فإنّ هذا الهيكل دائمًا بحاجة إلى تعديل في ضوء السلوك اللغوي الفعلي، وإنّ فهم اللغة هو مسألة تعديل الافتراضات المسبقة التفسيرية باستمرار (الافتراضات التي غالبًا ما تكون غير صريحة) بما يتوافق مع الأقوال المراد تفسيرها.
علاوة على ذلك فإنّ هذا يستدعي المهارات والمعرفة –الخيال والانتباه إلى مواقف وسلوكيات الآخرين ومعرفة العالم- التي ليست لغوية على وجه التحديد، والتي تشكل جزءًا من قدرة أكثر عمومية للتقدم في العالم وفيما يتعلق بالآخرين فالقدرة تقاوم أي تفسير رسمي، وفي كتابه تشويش لطيف للنصوص المرثية يضع ديفيدسون هذه النقطة بطريقة استفزازية، من خلال الادعاء بأنّه لا يوجد شيء اسمه لغة.
وبعبارة أقل استفزازًا فإنّ النقطة الأساسية هي أنّ الاتفاقيات اللغوية، وخاصة الاتفاقيات اللغوية التي تتخذ شكل اتفاق حول استخدام القواعد النحوية والدلالية المشتركة ، في حين أنّها قد تسهل الفهم ولا يمكن أن تكون أساسًا لمثل هذا الفهم.
إنّ إنكار ديفيدسون للاتفاقيات القائمة على القواعد باعتبارها لها دور مؤسسي في الفهم اللغوي، جنبًا إلى جنب مع تأكيده على الطريقة التي يجب أن يُنظر فيها إلى القدرة على الفهم اللغوي كجزء من مجموعة أكثر عمومية من القدرات للتقدم في العالم، فيكمن وراء وصف ديفيدسون الذي نوقش كثيرًا عن الاستعارة والميزات ذات الصلة للغة.
يرفض ديفيدسون فكرة أنّ اللغة المجازية يمكن تفسيرها بالرجوع إلى أي مجموعة من القواعد التي تحكم هذا المعنى، وبدلاً من ذلك يعتمد الأمر على استخدام الجمل مع معانيها الحرفية أو المعيارية بطرق تؤدي إلى ظهور رؤى جديدة أو غير متوقعة، وكما لا توجد قواعد يمكننا من خلالها معرفة ما يعنيه المتحدث عندما ينطق بجملة غير نحوية، والتورية أو استخدام اللغة بطريقة تختلف عن القاعدة لذلك لا توجد قواعد تحكم فهم الاستعارة.