الفيلسوف روجر بيكون شيء من أحد الألغاز، ولقد أطلق عليه العديد من الأشياء كأول عالم بريطاني والطبيب الرائع والساحر والمشعوذ، والعديد من تفاصيل حياته غير مؤكدة وقد ناقشها العلماء وجادلوا بشأنها لعدة قرون، ويُعتقد عمومًا أنّه ولد في إلتشيستر في إنجلترا حوالي عام 1214 على الرغم من أنّ بعض المؤلفين قد وضعوا تاريخ ميلاده في أواخر عام 1220، وهناك أدلة جيدة على أنّه كان في باريس عامي 1245 و 1251.
لكن من غير المؤكد ما إذا كان قد درس بالفعل في أكسفورد، ولو فعل ذلك لكان قد التقى روبرت جروسيتيست الذي غالبًا ما يوصف بأنّه أول مستشار لجامعة أكسفورد، على الرغم من أنّ دوره يوصف بشكل أفضل بأنّه سيد الطلاب (المعلم المدرسي)، وطول مسيرة الفيلسوف روجر بيكون المهنية وتنوع اهتماماته وإنجازاته الفلسفية يجعل من المستحيل التقاط فلسفته في ملخص بسيط.
فلسفة بيكون والأرسطية:
فيما يتعلق بعمل بيكون على أرسطو والمعلقين العرب خلال إقامته الأولى في باريس، ويمكن للمرء أن يتحدث عن بيكون كرائد في الدراسات الأرسطية، ومع ذلك فإنّ هذه الأعمال المبكرة تعطي القليل من التلميح عن اهتماماته اللاحقة والأكثر تخصصًا في العلوم وعلم الدلالات والفلسفة الأخلاقية واللاهوت المسيحي، واختلف عمل بيكون لاحقًا كعالم فرنسيسكاني اختلافًا كبيرًا عن أعماله السابقة في كل من المحتوى والغرض.
ربما كان أحد الأسباب المحتملة للتغيير في اهتمامات بيكون الأكاديمية هو مواجهته مع العمل الأرسطي الزائف سر الأسرار (Secretum Secretorum) أثناء وجوده في باريس خلال أربعينيات القرن التاسع عشر، وقد تم تأليف سر الأسرار (Secretum Secretorum) على شكل رسالة كتابية زائفة من أرسطو إلى الإسكندر الأكبر حيث تنتمي إلى النوع الأدبي المرايا للأمراء.
وذلك بهدف توفير نظرة ثاقبة لفن الحكومة والذي يعالج المؤلف المجهول العقائد السرية المفيدة لحاكم سياسي ومن بينها الأخلاق والكيمياء والطب، وقد يكون الأمر كذلك أنّ بيكون بعد قراءة (Secretum)، كان مصدر إلهام لتطوير الرؤية التي وجهت جهوده الفلسفية من الآن فصاعدًا وتألفت من مفهوم التعلم المسيحي الذي ينطبق على احتياجات البشرية على الصعيدين الدنيوي والعالمي.
للحصول على تقييم نقدي للتأثير المفترض لسر الأسرار (Secretum Secretorum) على آراء بيكون، كما كانت المبادئ التي تطورت حولها أفكاره لاحقًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالشؤون الاجتماعية والسياسية الملموسة، وأصبحت نظرته للعلوم تركز على قابلية التطبيق والتطبيق العملي والفائدة، وتجلت هذه النظرة العملية للعلوم باعتبارها في خدمة البشرية، وفي الملاحظات الإيجابية والسلبية التي وردت في كتابات مثل العمل العظيم (Opus Maius) أو خلاصة وافية لفلسفة التأسيس (Compendium Studii Philosophiae).
تألفت ملاحظاته السلبية من انتقادات متواصلة لما كان يعتبره مقفرًا، أي حالة التعلم غير المجدية عمليًا خلال عصره، وركزت ملاحظاته الإيجابية على مقترحات حول فوائد وإمكانيات التطبيق العملي لفروع المعرفة المختلفة.
لا ينبغي الخلط بين استخدام مصطلح العلم في العصور الوسطى والاستخدام الحديث، والذي يختلف عن البحث الفلسفي واللاهوتي، وبدلاً من ذلك فهم مفكرو القرن الثالث عشر مصطلح العلم وفقًا للإطار الأرسطي للمعرفة المعرفية أو المدروسة، كما وفقًا لأرسطو في التحليلات اللاحقة يشير العلم إلى الفهم الفكري لاقتراح حقيقي وضروري وعالمي، وهو معروف أو معروض في شكل دليل توضيحي ويوفر فهمًا لسبب صحة الاقتراح.
بعبارة أخرى يتضمن العلم الأرسطي معرفة حقيقة منطقية، أي فهم للعلم أوسع بكثير من الفهم الحديث للعلم التجريبي، على الرغم من حقيقة أنّ جميع السكولاستيين تقريبًا قد أيدوا النموذج الأرسطي للعلم، وكان هناك تباين واسع في روايات علماء العصور الوسطى حول تأسيس ونطاق العلوم الأرسطية، وذلك اعتمادًا على التزاماتهم الأنطولوجية والمعرفية والمنطقية.
استخدم بيكون مثل غيره من المفكرين مصطلحات العلم والفلسفة في كثير من الأحيان بالتبادل، مما يشير إلى مجموعة من التخصصات التي تتوافق مع النموذج الأرسطي، كما أنّه وفقًا لبيكون تشتمل العلوم أو الفلسفة على تخصصات متباينة مثل الفلسفة الأخلاقية والميتافيزيقيا.
المفاهيم الرئيسية لفلسفة بيكون:
كانت المفاهيم المحورية التي تدور حولها جميع جهود بيكون الفلسفية هي المنفعة (utilitas) والحكمة (sapientia)، واستخدم بيكون مفهوم المنفعة في سياق تأملاته حول العلاقة ونطاق وهدف العلوم، وبشكل أكثر تحديدًا استخدم المصطلح من معنيين:
- لوصف التسلسل الهرمي بين العلوم.
- للإشارة إلى وظيفة العلوم، أي تحسين الرفاه الجسدي والروحي للبشرية في هذا العالم والعالم التالي.
وفيما يتعلق بالتسلسل الهرمي للعلوم اعتبر بيكون أنّ العلوم النظرية تابعة للعلوم العملية، وبالنسبة له فإنّ الأول له دور فعال في تحقيق أهداف هذا الأخير، ومن المهم هنا التذكّر أنّ مفهوم بيكون للفلسفة لم يستلزم فكرة آباء الكنيسة القائلة بأنّ الفلسفة مجرد خادمة في علم اللاهوت (فلسفية أنسيلا لاهوت).
بالرغم من أنّ الفلسفة مفيدة في علم اللاهوت إلّا أنّها لا تختزل في اللاهوت، بل على العكس من ذلك اعتقد بيكون أنّ علم اللاهوت من أجل تحقيق هدفه كان يعتمد بشدة على الفلسفة، ومع ذلك فإنّ فائدة الفلسفة واللاهوت تشير في النهاية إلى الغرض الذي رسمه الله للعالم المخلوق، والذي أدركه بيكون في عودة جميع المخلوقات إلى أصلهم الإلهي.
فيما يتعلق بالحكمة يستخدم بيكون المصطلح للإشارة إلى مجموعة المعرفة الكاملة التي أعطاها الله للبشرية بغرض سعادة البشرية وخلاصها، وبمعنى ما كانت كل معرفة بيكون واردة في الكتاب المقدس ويجب أن تتكشف عن طريق الفلسفة والقانون الكنسي، ولكن الطريقة التي تكشف بها الفلسفة الحقائق الأساسية في الكتاب المقدس تختلف عن طريقة علم اللاهوت.
وفقًا لبيكون تم الكشف عن هذه التخصصات التفسيرية والفلسفة والقانون الكنسي لأول مرة للأنبياء والآباء الأوائل، ثم تم نقلها عبر أجيال من عشاق الحكمة الحقيقيين، مثل الأنبياء والآباء والفلاسفة الوثنيين في الشكل من النصوص الإلهية والدنيوية، كما قدّم بيكون عملية نقل المعرفة عن طريق علم الأنساب المفصل.
واعتبر أنّه من الضروري توفير دفاع شامل عن الحكمة مع الوسائل التي يمكن من خلالها استعادتها لأنّه تصور أنّ معاصريه يحدّون من الحكمة من حيث النطاق والمضمون، بل إنّهم في الواقع يفسدونها، وتم الكشف عن انتقال المعرفة بشكل ناقص بسبب خطايا بعض الفلاسفة.
ربما كان هدف نقد بيكون هو الفنانين الباريسيين، الذين فهم بعضهم أنّ البحث عن الحكمة هو مجرد مسعى نظري ومتخصص، أو الوزير العام لبيكون بونافنتورا الذي أدان التخصصات المشبوهة مثل العلوم التجريبية والكيمياء، وهكذا بدأت الرؤية العلمية بيكون في الترويج لها في ستينيات القرن الثاني عشر وتألفت من تأملات معيارية مفصلة ومحددة للغاية حول حالة التعلم، والتي سعى من أجلها للحصول على دعم البابا كليمنت الرابع.