فلسفة كتاب الأعراس ونقطة انطلاق كامو

اقرأ في هذا المقال


بحثت أطروحة التخرج للفيلسوف ألبير كامو في جامعة الجزائر بتعاطف العلاقة بين الفلسفة اليونانية والمسيحية، وتحديداً علاقة أفلوطين بأوغسطين، ومع ذلك فإنّ فلسفته ترفض الدين صراحة كأحد أسسها، كما أنّه لا يتخذ دومًا موقفًا عدائيًا صريحًا تجاه المعتقد الديني -على الرغم من أنّه يفعل ذلك بالتأكيد في روايات الغريب والطاعون- كما يذكر طريقة أخرى لفهم فلسفة كامو هي أنّها محاولة لاستكشاف قضايا ومخاطر عالم ما بعد الديني.

مواقف كامو من أعمال الفلسفي الأعراس:

ظهرت أولى كتابات كامو المنشورة التي تحتوي على التفكير الفلسفي الأعراس (Nuptials) في الجزائر في عام 1938، حيث ظلت أساس أعماله اللاحقة، كما تصف هذه المقالات والرسومات الغنائية وعيًا ينبض بالحياة في العالم وجسدًا مبهجًا بالطبيعة وانغماس الفرد في الجسد المطلق، ومع ذلك يتم تقديم هذه التجارب كحل لمشكلة فلسفية أي إيجاد معنى الحياة في مواجهة الموت، كما يظهرون جنبًا إلى جنب ويكشفون عن أنفسهم ليكونوا متأصلين في أول تأمل موسع له حول الأسئلة النهائية.

في هذه المقالات يضع كامو موقفين متعارضين فالأول هو ما يعتبره مخاوف دينية، حيث يستشهد بالتحذيرات الدينية حول الكبرياء والاهتمام بالروح الخالدة والأمل في الحياة الآخرة والاستسلام عن الحاضر والانشغال بالله، ومقابل هذا المنظور المسيحي التقليدي يؤكد كامو ما يعتبره حقائق بديهية من حيث يجب أن نموت ولا يوجد شيء يتجاوز هذه الحياة.

دون ذكر ذلك يستنتج كامو من هذه الحقائق أنّ الروح ليست خالدة، وهنا كما هو الحال في أي مكان آخر في كتاباته الفلسفية يوصي قرائه بمواجهة واقع مزعج بصراحة ودون تردد، ولكنه لا يشعر بأنّه مضطر لتقديم الأسباب أو الأدلة، وإذا لم يكن مع الدين فأين الحكمة إذن؟ جوابه هو: “باليقين الواعي للموت بلا أمل” وكذلك برفضه الاختباء من حقيقة أننا سنموت، وبالنسبة لكامو: “لا توجد سعادة خارقة ولا خلود خارج منحنى الأيام، ولا أرى أي فائدة من سعادة الملائكة”، كما أنّه لا يوجد شيء سوى هذا العالم وهذه الحياة وفورية الحاضر.

فلسفة كامو في مفهوم الأمل والموت:

يُطلق أحيانًا على كامو خطأً اسم (الوثني) لأنّه يرفض المسيحية على أساس الأمل في حياة ما بعد هذه الحياة، والأمل هو الخطأ الذي يرغب كامو في تجنبه حيث رفض (أوهام الأمل)، كما يحتوي الأعراس على استحضار بديل، ويعتمد كامو في هذا الخط الفكري على مناقشة نيتشه لصندوق باندورا في الإنسان وكل البشر: “كل شرور البشرية بما في ذلك الأوبئة والأمراض أطلقها زيوس على العالم، ولكن الشر الباقي، والأمل مخبئ في الصندوق ويعتز بها”.

لكن قد نتساءل لماذا يعتبر الأمل شرًا؟ يوضح نيتشه ذلك بأنّ البشر أصبحوا يرون أنّ الأمل هو أعظم خيراتهم، بينما معرفة زيوس بشكل أفضل فقد قصده باعتباره أكبر مصدر للمشاكل، حيث إنّه بعد كل شيء  فهو السبب الذي يجعل البشر يتركون أنفسهم يتعرضون للتعذيب وذلك لأنّهم يتوقعون مكافأة نهائية، وبالنسبة لكامو بعد قراءة نيتشه هذه عن كثب فإنّ الحل التقليدي هو في الواقع المشكلة من حيث أنّ الأمل كارثي بالنسبة للبشر، بقدر ما يقودهم إلى تقليل قيمة هذه الحياة إلى أدنى حد باستثناء التحضير لحياة ما بعد ذلك.

إذا كان الرجاء الديني مبنيًا على الاعتقاد الخاطئ بأنّ الموت أي بمعنى الانقراض التام والجسد والروح ليس حتميًا فإنّه يقودنا إلى زقاق مسدود، والأسوأ من ذلك لأنّه يعلمنا أن ننظر بعيدًا عن الحياة نحو شيء سيأتي بعد ذلك فإنّ مثل هذا الأمل الديني يقتل جزءً منا، على سبيل المثال الموقف الواقعي الذي نحتاجه لمواجهة تقلبات الحياة.

كامو والتخلي عن الأمل:

لكن ما هو المسار المناسب إذن؟ وهنا كامو الشاب ليس متشككًا ولا نسبيًا، كما أنّ نقاشه يرتكز على الدليل الذاتي للتجربة الحسية، وإنّه يدافع على وجه التحديد عن ما يتخلى عنه المسيحية، فعيش حياة الحواس بشكل مكثف هنا والآن وفي الوقت الحاضر، وهذا يستلزم أولاً التخلي عن كل أمل في الحياة الآخرة ورفض التفكير فيها بالفعل: “لا أريد أن أصدق أنّ الموت هو بوابة حياة أخرى، فهو بالنسبة لي هو باب مغلق”.

قد نعتقد أنّ مواجهة فناءنا الكامل سيكون أمرًا مريرًا ولكن بالنسبة لكامو يقودنا هذا إلى اتجاه إيجابي: “بين هذه السماء والوجوه التي تتجه نحوها لا يوجد شيء يمكن تعليق الأساطير أو الأدب أو الأخلاق أو دين عليه، وفقط الحجارة واللحم والنجوم وهذه الحقائق يمكن أن تلمسها اليد”، تستلزم هذه البصيرة الرفض بعناد ولكل ما هو في وقت لاحق من هذا العالم، ومن أجل المطالبة بثروة حالية، أي الحياة المكثفة للحواس هنا والآن.

الثروة هي بالضبط ما يغشنا به الأمل من خلال تعليمنا أن ننظر بعيدًا عنه ونحو الحياة الآخرة، وفقط من خلال الاستسلام لحقيقة أنّ (الشوق على الاحتمال) سيُحبط وسيقبل 0وعي الموت)، كما يمكننا أن ننفتح على ثروات الحياة التي هي مادية فوق كل شيء.

يضع كامو طرفي حجته في عبارة واحدة: “العالم جميل ولا خلاص في الخارج”، وفقط من خلال قبول الموت والتجريد من كل أمل لا يقدر المرء بشكل مكثف فقط الجانب المادي من الحياة، ولكن أيضًا كما يقترح الآن جانبها العاطفي والشخصي، وهذه مجتمعة وعلى عكس الإيمان الذي لا يمكن التحقق منه بالله والحياة الآخرة فهذه هي ما يمتلكه المرء ويعرفه حيث أن يشعر المرء بصلاته بأرض ما وحب المرء لبعض الرجال، وأن يعرف أنّ هناك دائمًا مكانًا يمكن للقلب أن يجد فيه الراحة، وهذه بالفعل العديد من الحقائق التي تتعلق بحياة رجل واحد”.

فقط إذا قبلنا أنّ نيتشه على حق وأنّ الله قد مات ولا يوجد شيء إلّا بعد أن نموت فسنختبر تمامًا -نشعر ونتذوق ونلمس ونرى ونشم- أفراح أجسادنا والعالم المادي، وبالتالي فإنّ الجانب الحسي والغنائي لهذه المقالات وطابعها المثير للذكريات هو محور النقاش، أو بالأحرى لأنّ كامو يروج لتجربة جسدية مكثفة ومبهجة على عكس الحياة الدينية التي تنكر الذات، بدلاً من تطوير حجة يؤكد أنّ هذه التجارب هي الاستجابة الصحيحة.

تهدف كتابات كامو إلى إظهار ما تعنيه الحياة وما تشعر به بمجرد أن نتخلى عن الأمل في الحياة الآخرة، حتى نتمكن من خلال القراءة من رؤية وجهة نظره، ويمكن اعتبار هذه المقالات على أنّها تحتوي على أفكار شخصية للغاية وتأملات شاب حول بيئته المتوسطية والتي نادرًا ما يبدو أنّ لديها أي نظام، ولكنهم يقترحون ماهية الفلسفة لكامو وكيف يتصور علاقتها بالتعبير الأدبي.

إذن يمكن نقل فلسفته المبكرة وإن لم يتم تلخيصها في أحد المقاطع من الأعراس في تيبازا، حيث يوضح كامو أنّه في لحظة عندما يلقي بنفسه بين نباتات الأفسنتين لإدخال رائحتها إلى جسده، سيعرف مظاهر عكس ذلك، كما أنّه يحقق حقيقة هي الشمس والتي ستكون أيضًا موته.

بمعنى ما يريد كامو التوضيح بإنّ حياته هي حقًا ما يراهن هنا، وحياة مذاقها من الحجر الدافئ ومليئة بعلامات البحر والأغنية الصاعدة للصراصير، والنسيم بارد والسماء زرقاء، ويحب هذه الحياة بالتخلي ويتمنى أن يتحدث عنها بجرأة حيث إنّها تجعله فخوراً بوضعه الإنساني، ومع ذلك كثيرًا ما قال له الناس بأنّه لا يوجد شيء يدعو للفخر، أي أنّ هناك هذه الشمس وهذا البحر وقلبه يقفز مع الشباب، وطعم الملح في جسده وهذا المشهد الشاسع الذي يندمج فيه الحنان والمجد باللونين الأزرق والأصفر.

وللتغلب على هذا فإنّه بحاجة إلى قوته وموارده، وكل شيء هنا يتركه على حاله، ولا يتخلى عن أي شيء من نفسه ولا يرتدي قناعًا حيث التعلم بصبر وبشكل شاق وكيفية العيش أمرًا كافيًا بالنسبة له، ويستحق كل فنونهم في الحياة، كما يخبرنا الحاضر المكثف والمتألق أنّه يمكننا تجربة الحياة وتقديرها بالكامل فقط بشرط ألّا نحاول تجنب موتنا النهائي والمطلق.


شارك المقالة: