فلسفة كريسيبوس الأخلاقية

اقرأ في هذا المقال


كان الفيلسوف اليوناني كريسيبوس أول منظم للعقيدة الرواقية، وربما ينبغي أن يُنسب إليه الفضل في الكثير من نظرية المنطق واللغة الرواقية التي أثارت إعجاب عدد من فلاسفة القرن العشرين.

اليودايمونية أو الحياة الجيدة:

كما لاحظ أرسطو على الرغم من أنّ معظم الناس يتفقون على أنّ السعادة أو اليودايمونيا هي هدف الحياة، فهناك اتفاق أقل بشأن ماهية السعادة فقط، ويتفق الرواقيون مع أرسطو على أنّ عيش حياة سعيدة هو النهاية التي يتم من أجلها كل الأشياء، وأنّ مثل هذا النشاط لا يتم من أجل أي شيء آخر، وبعد أن وضعوا اليودايمونيا أو (eu zên) على أنّه تلخيص الخير (Summum bonum)، ويُترك للرواقيين مهمة الإشارة إلى أين تتكون السعادة، وبالنسبة للرواقيين فإنّ السعادة لا تتكون إلّا من الفضيلة.

فهم يعتبرون أنّ الصحة تستحق قيمة معينة، ولكنهم لا يحسبونها خيرًا، ففي نفس الوقت هم لا يقيمون أي قيمة بدرجة عالية بحيث يضعوها فوق الفضيلة، وهذه ليست نفس وجهة النظر التي يتبناها المشائون الذين سيقولون إنّ الفعل الأخلاقي (الصادق) وبدون ألم هو مرغوب فيه أكثر من نفس الفعل مع الألم، ولكن الرواقيون يفكرون بطريقة أخرى.

إذن لا شيء يُقدَّر أكثر من الفضيلة، وقد يعتبر المرء أنّ السعادة ذات قيمة أعلى من الفضيلة، حيث قد يُنظر إلى الأولى على أنّها وسيلة للأخيرة، ولكن هذا سيكون خطأ لأنّه يبدو أنّ كريسيبوس كان على استعداد للتعرف ببساطة على الحياة الفاضلة والسعادة، فكريسيبوس يؤكد أنّ الرذيلة هي جوهر التعاسة، ويصر في كل كتاب يكتبه عن الأخلاق والفيزياء على أنّ العيش بوحشية يشبه العيش في حالة تعيسة.

بطبيعة الحال في تعريف السعادة بالفضيلة فإنّ كريسيبوس ملزم بتقديم وصف للفضيلة، وزينو مؤسس المدرسة في ستوا بويكل أكد أنّ النهاية النهائية للحياة هي العيش باستمرار وانسجام، ولقد فهم خليفته كلينتيس العيش بشكل متسق ومتناغم على أنّه العيش المتسق مع الطبيعة، وشرح كريسيبوس الفكرة بشكل أكبر بالصيغة التالية: “العيش وفقًا لتجربة الفرد للأشياء التي تنشأ عن طريق الطبيعة”، ولكن ما زال من غير الواضح ما الذي يعنيه العيش وفقًا للطبيعة.

حاول فريدريك نيتشه الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر محاكاة الفكرة بالقول: “بأنّ حسب الطبيعة تريد أن تعيش؟ حيث يتسأل نيتشه عن الرواقيون النبلاء وطريقة استخدامهم لكلمات مخادعة، ويضيف نيتشه: “وافترض أن واجبك العيش وفقًا للطبيعة، يعني في الأساس بقدر ما يعني العيش وفقًا للحياة فكيف لا يمكنك فعل ذلك؟ ولماذا تصنعون مبدأ مما تكونون عليه وما يجب أن تكونوا عليه؟”.

يبدو إنّهم في الحتمية الشاملة إلى حد ما تسود فكر الرواقيين والمسار لفهم آراء كريسيبوس حول الفعل لا يخلو من صعوبة، ولذلك يمكن للمرء أن يسأل السؤال بشكل عادل، أي كيف يمكن للمرء ألّا يعيش وفقًا للطبيعة؟ لفهم ما يفكر فيه الرواقيون فمن المهم ملاحظة أنّ الجدل المتكرر بين الدوائر الفلسفية في العصور القديمة يتعلق بما إذا كان ما هو جيد هو فضيلة الطبيعة (physis) أو العرف (nomos).

كما يشير أرسطو في الأخلاق النيشوماخية وهناك مثل هذا التنوع بين الآراء المتعلقة بالأفعال التي يُعتقد أنّها موجودة وفقًا للاتفاقية بدلاً من الطبيعة، ولذا فإنّ العيش وفقًا للطبيعة أو مع ما هو جيد بطبيعته، يتناقض مع العيش وفقًا لمجرد الرأي أو العرف فيما يتعلق بما هو صالح، والآن عندما يقول كريسيبوس بأنّه يجب على المرء أن يعيش وفقًا لتجربة المرء للأشياء التي تحدث عن طريق الطبيعة، فهناك سبب ما للاعتقاد بأنّ الطبيعة التي يدور في ذهنه هي الطبيعة الخاصة بالبشر.

إنّ خاصية أو طبيعة الجنس البشري هي استخدام العقل، ولذلك يبدو أنّ موقف كريسيبوس هو أنّ الإنسان الذي يعيش وفقًا للعقل يعيش وفقًا للفضيلة، وهذا منصب يحظى ببعض الشعبية والذي يذكرنا بأرسطو في الأخلاق النيشوماخية، وبالتالي فإنّ مشكلة المحاسبة عن العمل الحر لم يتم حلها، كما أنّ الفجوة بين ما هو موجود ويجب أن يتم إغلاقها بموجب هذا، ولكن أمر العيش وفقًا للطبيعة قد يعني ببساطة العيش وفقًا لطبيعتك كإنسان من خلال العيش وفقًا للعقل، وكتفسير للفضيلة كان لهذا الرأي بعض الاعتبارات لصالحه.

وحدة وتماسك الفضائل:

على الرغم من أنّ آراء كريسيبوس حول الفضيلة تشترك كثيرًا مع آراء أرسطو، فإنّ هناك تشابهًا واضحًا آخر يتعلق بالروابط التي وجد كريسيبوس وسقراط أنّها اكتسبتها بين الفضائل الأساسية، ويبدو أنّ سقراط كان يعتقد أنّ الفضائل يمكن اختزالها إلى شيء واحد أي القدرة على تمييز الخير من الشر، ففي لاشيز على سبيل المثال يُقترح أنّه يمكن اختزال الشجاعة إلى الحكمة من خلال القول بأنّ الشجاعة هي معرفة ما يلهم الخوف والثقة.

والمخاوف شر وما يوحي بالثقة فهو خير، والشجاعة كما تقول الحجة هي معرفة ما هو خير وما هو شر، وإنّ الحجج المماثلة في النوع تختزل الفضائل الأخرى في معرفة الخير والشر، ويبدو أنّ كريسيبوس قد احتفظ بخط تفكير سقراط، والحكمة هي معرفة الأشياء التي سيتم اختيارها والاعتدال هو المعرفة، فعلى سبيل المثال بما يجب على المرء أن يكون حازمًا، وبطبيعة الحال فإنّ فهم الفضيلة باعتبارها قابلة للاختزال بطريقة ما للمعرفة يتوافق بشكل جيد مع فكرة أنّ الفضيلة تعيش وفقًا للعقل.

يُعتقد عادةً أنّ مصدر المعرفة المطلوب للفضيلة وفقًا لكريسيبوس هو دراسة الفلسفة الطبيعية، ومع ذلك في السنوات الأخيرة كان هناك بعض الجدل حول ما إذا كان علم الأخلاق يعتمد بشكل حاسم على الادعاءات حول طبيعة الكون أم لا وفقًا لـ زينو وكلينتيس وكريسيبوس، ويعتقد عدد من العلماء الآن أنّ مؤسسي الفلسفة الرواقية يجب أن يتحرروا من تفسير أنّ الأخلاق تعتمد بشكل كبير على علم الكون الذي لا جدال فيه عن العناية الإلهية.

تجد جوليا أنس (Julia Annas) على سبيل المثال صعوبة في استيعاب فكرة أنّ الأخلاق تعتمد على علم الكونيات لأنّها تقودنا إلى قبول استنتاجات غير متوقعة مثل الرذيلة أمر سيء، وأنّ العواطف مثل الندم كلها خاطئة، ومع ذلك فإنّ قبول الرأي القائل بأنّ الرواقيين لم يعتقدوا أنّ الأخلاق المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفيزياء لها مجموعتها الخاصة من النتائج غير البديهية، لأنّه يصبح من الصعب فهم كلمتهم في أكثر من بضعة نصوص رئيسية.

وهناك توضيح مأخوذ من بلوتارخ من كتابه المقاومة الرواقية حول مسلمات كريسيبوس الفيزيائية، بأنّه لا توجد طريقة أخرى أو أكثر ملاءمة لمقاربة نظرية الأشياء الجيدة والسيئة أو الفضائل أو السعادة من الطبيعة العالمية (koinê physis)، ومن إدارة العالم ولاحقًا بالنسبة لنظرية الخير والشر يجب ربط الأشياء بهما، حيث لا توجد نقطة بداية أو مرجع آخر لهما يكون أفضل، ولا يجب اعتماد التخمين المادي (physika theoria) لأي غرض آخر غير للتمييز بين الخير والشر، وتعد القراءة المباشرة لتوضيح بلوتارخ وقرأتها بهذه الطريقة تظهر كريسيبوس كعالم غائي يقر بأنّ الحياة الصالحة والعلمية والورعة هي نفسها.


شارك المقالة: