اقرأ في هذا المقال
ما بعد الحداثة في الفلسفة الغربية هي حركة أواخر القرن العشرين تتميز بالتشكيك الواسع أو الذاتية أو النسبية، واشتباه عام في السبب وحساسية شديدة لدور الأيديولوجيا في تأكيد القوة السياسية والإقتصادية والحفاظ عليها.
ما بعد الحداثة والفلسفة الحديثة:
تعد ما بعد الحداثة إلى حد كبير رد فعل ضد الافتراضات والقيم الفكرية للفترة الحديثة في تاريخ الفلسفة الغربية تقريبًا من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، وفي الواقع يمكن وصف العديد من المذاهب المرتبطة بشكل مميز بما بعد الحداثة على أنّها إنكار مباشر لوجهات النظر الفلسفية العامة التي تم أخذها كأمر مسلم به خلال عصر التنوير في القرن الثامن عشر على الرغم من أنّها لم تكن فريدة في تلك الفترة.
أهم وجهات النظر لفلسفة ما بعد الحداثة:
- هناك واقع طبيعي موضوعي وواقع يكون وجوده وخصائصه مستقلًا منطقياً عن البشر أي عن عقولهم أو مجتمعاتهم أو ممارساتهم الإجتماعية أو تقنياتهم الإستقصائية، ويرفض ما بعد الحداثيين هذه الفكرة على أنّها نوع من الواقعية الساذجة، فمثل هذه الحقيقة الموجودة وفقًا لما بعد الحداثيين فهي بناء مفاهيمي وقطعة أثرية من الممارسة العلمية واللغة، كما تنطبق هذه النقطة أيضًا على التحقيق في الأحداث الماضية من قبل المؤرخين وعلى وصف المؤسسات الاجتماعية أو الهياكل أو الممارسات من قبل علماء الاجتماع.
- يمكن أن تكون البيانات الوصفية والتفسيرية للعلماء والمؤرخين من حيث المبدأ صحيحة أو خاطئة من الناحية الموضوعية، يُعبَّر أحيانًا عن إنكار ما بعد الحداثة لوجهة النظر هذه الذي ينبع من رفض حقيقة طبيعية موضوعية بالقول إنّه لا يوجد شيء إسمه الحقيقة.
- من خلال استخدام العقل والمنطق والأدوات الأكثر تخصصًا التي يوفرها العلم والتكنولوجيا من المرجح أن يغير البشر أنفسهم ومجتمعاتهم إلى الأفضل، فمن المعقول أن نتوقع أن تكون المجتمعات المستقبلية أكثر إنسانية وعدلاً وتنويرًا وازدهارًا مما هي عليه الآن.
ينكر ما بعد الحداثيين إيمان التنوير بالعلوم والتكنولوجيا كأدوات للتقدم البشري وفي الواقع يعتقد العديد من ما بعد الحداثيين أنّ السعي المضلل أو غير الموجه للمعرفة العلمية والتكنولوجية أدى إلى تطوير تقنيات القتل على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية، ويذهب البعض إلى حد القول بأنّ العلم والتكنولوجيا وحتى العقل والمنطق بطبيعتهما مدمران وقمعيان لأنّهما استخدمهما الأشرار خاصة خلال القرن العشرين لتدمير واضطهاد الآخرين. - العقل والمنطق صالحان عالميًا أي أنّ قوانينهما هي نفسها أو تنطبق بالتساوي على أي مفكر وأي مجال من مجالات المعرفة، وبالنسبة لما بعد الحداثيين فإنّ العقل والمنطق أيضًا مجرد بنيات مفاهيمية وبالتالي فهي صالحة فقط ضمن التقاليد الفكرية الراسخة التي يتم استخدامها فيها.
- هناك شيء مثل الطبيعة البشرية وهو يتألف من كليات أو قدرات أو ميول موجودة بشكل ما في البشر عند الولادة بدلاً من تعلمها أو غرسها من خلال القوى الاجتماعية، وهنا يصر ما بعد الحداثيين على أنّ جميع جوانب علم النفس البشري أو ربما كلها تقريبًا مُحددة اجتماعياً بالكامل.
- اللغة تشير إلى حقيقة خارجها وتمثلها، ووفقًا لما بعد الحداثيين فإنّ اللغة ليست مثل (مرآة الطبيعة)، كما وصف الفيلسوف البراغماتي الأمريكي ريتشارد رورتي وجهة نظر التنوير، بل مستوحى من عمل اللغوي السويسري فرديناند دي سوسور الذي يزعم أتباع ما بعد الحداثة أنّ اللغة قائمة بذاتها لغويًا أو مرجعية ذاتية أي بمعنى الكلمة ليس شيئًا ثابتًا في العالم أو حتى فكرة في العقل بل بالأحرى مدى التناقضات والاختلافات مع معاني الكلمات الأخرى، ولأنّ المعاني بهذا المعنى هي وظائف لمعاني أخرى أي التي هي في حد ذاتها وظائف لمعاني أخرى، وما إلى ذلك فهي ليست (حاضرة) بالكامل للمتحدث أو المستمع، ولكنها (مؤجلة) إلى ما لا نهاية.
وهنا لا يميز المرجع الذاتي اللغات الطبيعية فحسب بل يميز أيضًا (الخطابات) الأكثر تخصصًا لمجتمعات أو تقاليد معينة، ويتم تضمين هذه الخطابات في الممارسات الاجتماعية وتعكس المخططات المفاهيمية والقيم الأخلاقية والفكرية للمجتمع أو التقاليد التي تستخدم فيها، وترجع وجهة نظر ما بعد الحداثة للغة والخطاب إلى حد كبير إلى الفيلسوف والمنظر الأدبي الفرنسي جاك دريدا (1930-2004) المنشئ والممارس الرائد للتفكيك. - يمكن للبشر اكتساب المعرفة عن الواقع الطبيعي، ويمكن تبرير هذه المعرفة في نهاية المطاف على أساس الأدلة أو المبادئ التي يمكن أن تكون معروفة على الفور أو بشكل حدسي أو بطريقة مؤكدة، ويرفض أتباع ما بعد الحداثة التأسيسية الفلسفية وهي المحاولة التي ربما تكون أفضل مثال على ذلك في مقولة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في القرن السابع عشر cogito ، ergo sum “أنا أفكر ، إذن أنا موجود“، ولتحديد أساس اليقين الذي يبني عليه صرح بما في ذلك المعرفة العلمية.
- من الممكن على الأقل من حيث المبدأ بناء نظريات عامة تشرح العديد من جوانب العالم الطبيعي أو الإجتماعي ضمن مجال معين من المعرفة، فعلى سبيل المثال فإنّ نظرية عامة للتاريخ البشري مثل المادية الديالكتيكية، وعلاوة على ذلك يجب أن يكون هدف البحث العلمي والتاريخي بناء مثل هذه النظريات حتى لو لم يكن من الممكن تحقيقها بشكل كامل في الممارسة.
ويرفض أتباع ما بعد الحداثة هذا المفهوم باعتباره حلمًا كاذبًا بل إنّه في الواقع أعراض لميل غير صحي في خطابات التنوير لإعتماد أنظمة فكرية (شمولية) وكما أسماها الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس أو (سرديات) كبرى للإنسان البيولوجي والتاريخي والاجتماعي، أو (التنمية) كما ادعى الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار.
هذه النظريات خبيثة ليس فقط لأنّها خاطئة ولكن لأنّها تفرض التوافق على وجهات نظر أو خطابات أخرى، وبالتالي قمعها أو تهميشها أو إسكاتها وقد ساوى دريدا نفسه بين الميل النظري نحو الشمولية والشمولية.
ما بعد الحداثة والنسبية:
كما هو موضح في السابق فإنّ العديد من العقائد المميزة لما بعد الحداثة تشكل أو تشير ضمنًا إلى شكل من أشكال النسبية الميتافيزيقية أو المعرفية أو الأخلاقية، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ بعض ما بعد الحداثيين يرفضون بشدة التسمية النسبية.
وينكر ما بعد الحداثيين وجود جوانب موضوعية في الواقع، وأنّ هناك عبارات عن الواقع صحيحة أو خاطئة من الناحية الموضوعية، وأنّه من الممكن معرفة مثل هذه العبارات (المعرفة الموضوعية)، وأنّه من الممكن للبشر معرفة بعض الأشياء على وجه اليقين، وأنّ هناك قيمًا أخلاقية موضوعية أو مطلقة، وأنّ الواقع والمعرفة والقيمة تُبنى من خلال الخطابات ومن ثم يمكن أن تختلف معهم.
وهذا يعني أنّ خطاب العلم الحديث عند النظر إليه بعيدًا عن معايير الإثبات الداخلية له ليس له شراء أكبر للحقيقة من وجهات النظر البديلة بما في ذلك على سبيل المثال علم التنجيم والسحر، ويصف ما بعد الحداثيين أحيانًا معايير إثبات العلم بما في ذلك استخدام العقل والمنطق بأنّها (عقلانية التنوير).
من الواضح أنّ النسبية العامة التي تميز ما بعد الحداثة تستدعي خطًا معينًا من التفكير فيما يتعلق بطبيعة ووظيفة الخطابات من أنواع مختلفة، فإذا كان ما بعد الحداثيين محقين في أنّ الحقيقة والمعرفة والقيمة مرتبطة بالخطاب فإنّ الخطابات الراسخة في عصر التنوير ليست ضرورية أو مبررة أكثر من الخطابات البديلة، لكن هذا يثير التساؤل حول كيفية تأسيسها في المقام الأول.
إذا لم يكن من الممكن أبدًا تقييم الخطاب وفقًا لما إذا كان يؤدي إلى الحقيقة الموضوعية، فكيف أصبحت الخطابات الراسخة جزءًا من النظرة العالمية السائدة في العصر الحديث؟ لماذا تم تبني هذه الخطابات أو تطويرها بينما لم يتم تبنيها أخرى؟
جزء من إجابة ما بعد الحداثة هو أنّ الخطابات السائدة في أي مجتمع تعكس المصالح والقيم بشكل عام للمجموعات المهيمنة أو النخبة، بينما يختلف ما بعد الحداثيين حول طبيعة هذا الارتباط في حين أنّ البعض يؤيد على ما يبدو مقولة الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس بأنّ: “الأفكار الحاكمة في كل عصر كانت أفكار الطبقة الحاكمة”، فإنّ البعض الآخر أكثر حذراً، مستوحى من البحث التاريخي للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ويدافع بعض ما بعد الحداثيين عن وجهة النظر الدقيقة نسبيًا القائلة بأنّ ما يُعد معرفة في عصر معين يتأثر دائمًا بطرق معقدة ودقيقة بإعتبارات القوة.
ومع ذلك هناك آخرون ممن هم على استعداد للذهاب إلى أبعد من ماركس حيث جادل الفيلسوف والمنظر الأدبي الفرنسي Luce Irigaray على سبيل المثال بأنّ علم الميكانيكا الصلبة قد تم تطويره بشكل أفضل من علم ميكانيكا الموائع لأنّ مؤسسة الفيزياء التي يهيمن عليها الذكور تربط الصلابة والسيولة بالأعضاء الجنسية الذكرية والأنثوية، على التوالي.
وبالمثل أخطأت المحللة النفسية والكاتبة الفرنسية البلغارية المولد جوليا كريستيفا في اللسانيات الحديثة لتفضيل جوانب اللغة المرتبطة في نظريتها في التحليل النفسي بالسلطة الأبوية أو الأبوية (أنظمة القواعد والمعنى المرجعي) على الجوانب المرتبطة بالأمومة والجسد (الإيقاع والنغمة والعناصر الشعرية الأخرى).
ولأن خطابات التنوير الراسخة هي إلى حد ما اعتباطية وغير مبررة ويمكن تغييرها، ولأنّها تعكس بشكل أو بآخر مصالح وقيم الأقوياءإذن يجب تغييرها، وهكذا يعتبر ما بعد الحداثيين أنّ موقفهم النظري شامل وديمقراطي بشكل فريد، لأنّه يسمح لهم بالإعتراف بالهيمنة الظالمة لخطابات التنوير على المنظورات الصحيحة المتساوية للجماعات غير النخبوية.
في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تبنى المدافعون الأكاديميون نيابة عن مختلف الجماعات العرقية والثقافية والعرقية والدينية انتقادات ما بعد الحداثة للمجتمع الغربي المعاصر، وأصبحت ما بعد الحداثة الفلسفة غير الرسمية للحركة الجديدة لـ (سياسات الهوية).