قد أعذر من أنذر

اقرأ في هذا المقال


تتميز كل أمة من الأمم بموروثها الثقافي الذي تملكه، والذي يصوّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي سنتناوله لاحقًا، هو: “أعذر من أنذر”.

من هو صاحب مقولة “أعذر من أنذر”؟

أول من قال عبارة: “أعذر من أنذر”، هو: “معاوية بن أبى سفيان”، إذ إنه لما كانت السنة الخامسة والخمسين للهجرة، كتب إلى الأمصار أن يفدوا إليه ليبايعوه، وشاور قبل البيعة عبد الله بن الزبير، إذ قال له: “إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك”، فضحك معاوية، وقال: “ثعلب راوغ”، ثم إنه التفت إلى الأحنف، فقال الأحنف: نخافكم إن صدقناكم، ونخاف الله إن كذبنا، وأما محمد بن عمر بن حزم  فقد قال: يا أمير المؤمنين، إن يزيد أصبح غنيًا في المال، وسيطًا في الحسب، وإن الله سائل كل راعٍ عن رعيته.

قصة مثل “أعذر من أنذر”:

لقد سمح معاوية بن أبي سفيان للوفود فدخلوا عليه، فتقدم الضحاك بن قيس، فقال: “في يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إذا صرتم إلى عدله، وسعكم جذع قارح سويق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع”، ثم قام يزيد بن المقفع، فقال: أميرنا هذا، أي معاوية، فإن هلك، فهذا وأشار إلى يزيد فمن أي فهذا، وأشار إلى سيفه، ثم قال الأحنف بن قيس، وهكذا بويع ليزيد.

عند ذاك قام يزيد بن معاوية يبايع الناس، فقال أحد الذين حضروا البيعة: “رب إني أستجير بك من شر معاوية”، فقال له معاوية بن أبي سفيان: “بل استعذ بالله من شر نفسك، فإنها أشد عليك”، فقال: “إني أبايع وأنا كاره”، فقال له معاوية: “فعسى أن تكرهوا شيئًا، ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا”، ثم دعا أهل المدينة فإن أهل الشام والعراق قد بايعوا، وقام عامل المدينة يبايع أهل المدينة، فأنكروا البيعة، ومنهم: عبد الرحمن بن أبي بكر، الحسين بن علي، عبد الله بن الزبير، عبد الله بن عمر، إذ أنكروا البيعة؛ لأنهم أبناء الخلافة الراشدية، فخرج معاوية إلى المدينة، فتلقاه الناس فقال للحسين: مرحبًا بسيد شباب المسلمين، قربوا دابة لأبي عبدالله، وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبًا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق، وقال لابن عمر: مرحبًا بصاحب رسول الله وابن الفاروق، وقال لابن الزبير: مرحبًا بابن حواري رسول الله وابن عمته، ودعا لهم بدواب حملهم عليها، ثم حج إلى مكة، وبعد أن قضى حجته، دنا من المنبر ودعا هؤلاء الأربعة.

اتفق الصحابة الأربعة أن يردوا على معاوية، واختاروا لذلك عبد الله بن الزبير، فوافق، وقال لهم: “على أن لا تخالفوني”، ثم إنهم أتو معاوية، فرحب بهم وقال لهم: “علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وتكونوا له معينين”، فسكتوا، وتكلم الزبير، فقال: “نخيرك بين ثلاث، فأيها أخذت ففيها خيار”: أن تصنع كما صنع رسول الله، إذ إنه لم يستخلف أحدًا، وإنما ترك الموضوع لخيار الناس، أو أن تصنع كما صنع أبو بكر، حيث إنه لم يستخلف من ولده، وإنما استخلف من قاصية قريش، “والمقصود أمير المؤمنين الفاروق”، أو فلتصنع كما صنع عمر، إذ لم يستخلف من ولده، وإنما صيرها إلى ستة نفر من قريش؛ فاختاروا عثمان، فقال لهم سيدنا معاوية: “هل عندكم غير هذا؟”، فقالوا: لا، نحن على ما قال الزبير وكانوا متفقين.

لما سمع معاوية منهم ما سمع، قال مقولته المشهورة: “إني أتقدم إليكم، وقد أعذر من أنذر”، “وإني لأقسم بالله لئن رد علي أحد منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقى إلا عليها”، وصعد إلى المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: “إن ابن علي، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير دعوتهم، فبايعوا وأطاعوا، فقال أهل الشام: “وما يعظم من هؤلاء ولا يعظم المرء نسبه بل أفعاله، اسمح لنا لنضرب أعناقهم، ولا نرضى حتى يبايعوا علانية”، فقال لهم معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر!، أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة منكم ثانية، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا.


شارك المقالة: