قصة قصيدة أراك فتحت ثغرا يا حذائي
أمّا عن مناسبة قصيدة “أراك فتحت ثغرا يا حذائي” فيروى بأن رجلًا من أهل بغداد يقال له أبا قاسم الطنبوري كان يمتلك حذاء، وكان أبو قاسم يرتدي هذا الحذاء منذ ما يزيد عن السبع سنين، فكان كلما اهترأ في موضع، رقع ذلك الموضع، حتى أصبح حذائه ثقيلًا جدًا، فأصبح أهل بغداد يضربون به المثل من شدة بخله، حيث كان يمتلك الكثير من الأموال، فقد دخل في يوم من الأيام إلى السوق، فأتاه أحد التجار وقال له: لقد أتى تاجر من حلب، ومعه زجاج مذهب، فاشتره منه، وأنا أبيعه لك، فتربح منه الضعف ضعفين، فاشتراه بستين دينار، وأكمل مسيره في السوق، فأتاه تاجر آخر، وقال له: هنالك تاجر معه حمولة من ماء الورد، فاشترها منه، وأنا أبيعها لك، فتربح الضعف ضعفين، فاشتراها، ووضع الزجاج والماء في بيته.
ومن ثم خرج أبو القاسم إلى حمام المدينة، ولقي هنالك أصدقاء له، فقالوا له: ألن تغير حذائك، فهو في غاية البشاعة، فقال له: الحق معك، ومن ثم دخل واستحم، وعندما أراد الخروج وجد حذاء جديدًا بجانب حذائه، فظن بأن صديقه من شدة كرمه اشتراه له، فلبسه وغادر، ولكن الحذاء كان حذاء والي المدينة، وعندما خرج الوالي لم يجد حذائه، وعندما رأى الناس حذاء أبي القاسم عرفوا بأنه هو من أخذه، فأخبروا الوالي بذلك، فبعث الوالي حراسه إلى بيت أبي القاسم، فأحضروه إلى مجلسه، فأمر بضربه، وغرمه بعض المال، ووضعه في السجن.
بعد أن خرج أبو القاسم من السجن أخذ حذاءه، وهو غاضب، وقام برميه في نهر دجله، وكان أحد الصيادين يصطاد في ذلك اليوم، فرمى شباكه، وخرج الحذاء في الشباك، فعرف الحذاء، وظن بأنه وقع من أبي القاسم في النهر، فحمله إلى أبي القاسم، وطرق عليه باب بيته، ولكنه لم يجد أحدًا في البيت، وكانت إحدى نوافذ البيت مفتوحة، فرمى الصياد الحذاء إلى داخل البيت من تلك النافذة، فوقع على الرف، وكسر الزجاج، وانسكب ماء الورد، وعندما عاد أبو القاسم إلى البيت ورأى ذلك، فأخذ يبكي وهو يلطم على وجهه، وقال: لقد أفقرني هذا الملعون، وخرج إلى فناء بيته، وحفر حفرة، لكي يضعه فيها، فسمعه الجيران، وظنوا بأنه ينقب عليهم، فشكوه إلى حاكم المدينة، فأحضره، وغرمه مالًا، وسجنه.
وعندما خرج من السجن، حمل الحذاء، ورماه في حمام الخان، فسد الحمام، وغضب الناس من الرائحة، فبحثوا عن السبب، وإذ هو حذاء أبي القاسم، فأخذوه إلى الحاكم، وأخبروه بذلك، فأحضره، وغرمه مالًا، ووضعه في السجن، وعندما خرج من السجن، قال: والله لا أفارقك بعد الآن، فغسله، ووضعه على سطح منزله حتى يجف، فرآه كلب، وحمله، وبينما هو يعبر به من سطح إلى آخر، وقع منه على رأس رجل يمشي في الشارع، وجرحه، فاجتمع الناس، وعرفوا الحذاء، فأخذوه إلى الحاكم، وأخبروه بالخبر، فأحضر أبا القاسم، وغرمه مالًا، ووضعه في السجن، فلم يبق عنده أي مال.
وعندما خرج من السجن، أمسك بالحذاء، وتوجه إلى القاضي، ودخل عليه، وطلب منه أن يكتب ورقة يثبت فيها بأن هذا الحذاء ليس له بعد الآن، ومهما فعل الحذاء فلا يؤاخذ به، وأخبر الجميع بما حصل، فضحك القاضي، وجميع الحاضرين، وفي خبر ذلك أنشد الشاعر:
أرَاكَ فَتَحتَ ثَغرًا يَا حِذائي
وأخرَجتَ الِلسَانَ بِلا حـيَـاءِ
وَأعلنتَ الـتَـمَـرُّدَ بَعدَ عُـمـرٍ
فَقَدتَّ اللونَ فِيهِ مِنَ الشقَاءِ
وذَابَ الخَيطُ ثُمَّ الجِلدُ حتَّىٰ
تَـدَلَّـىٰ مِثلَ ذَيـلٍ مِـنْ ورَائِـي
إِذَا مَا سِرتُ ألقَىٰ مِنكَ نَوحًا
كَثكلىٰ لا تَـكَـفُّ عَـنِ البُــكَـاءِ
أمَـا أنـتَ الـذي لا نَـعـلَ يَعلو
عَـلـيـكَ وإِنْ تَـحَـلَّىٰ بِـالـطِّـلاءِ
أمَـا أنـتَ الذي جُبْتَ الفيَافي
وَخُضْتَ المَاءَ فِي سَيلِ الشِتَاءِ
أمَا أنتَ الذي قَد صَانَ رِجلي
مِنَ الأدرانِ دَومًا فِي خَلائِي
وكَم حَاربتَ مِسمَارًا وشَوكًا
وكُنتَ تَذودُ عَنِّي كَـالـفِـدائِي
أرَاكَ اليَومَ مَرمىٰ كُـلَّ شـوكٍ
فَأينَ أضعتَ عَزمكَ يَا وجَائِي
ترَاكَ نَسيتَ مَجدًا عَـنـتـريًّا
ووعدًا أنْ تَسيرَ بِـلا أنتِهاءِ
وخَاصمتَ الطَّريقَ وصِرتَ وهنًا
ومَـسـخًـا قَـد تَـنـكَّـر فِي حِـذاءِ
ذَهبتُ إِلىٰ المُعَالِجِ عَلَّ شِيئًا
يُـقَـدِّمَـهُ فَـتـنـعَـمَ بِـالـشِـفَـاءِ
فَمْصمَصَ لِيَ الشِفاهَ وراحَ يَرمِي
إِلـىٰ أُذُنـيَّ فَـيـضًـا مِـنْ عَـزاءِ
فَقدتُّـكَ يَا فِـداكَ أَبي وأُمِّي
وزوجِي والعِيَالِ ومَن ورائِي
حالة الشاعر
كانت حالة الشاعر عندما أنشد هذه القصيدة معاتبة حذائه على الحال التي أصبح عليها.