قصة قصيدة أمكتوم عيني لا تمل من البكا
أمّا عن مناسبة قصيدة “أمكتوم عيني لا تمل من البكا” فيروى بأن الخليفة عبد الملك بن مروان بعث في يوم من الأيام بكتاب إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، وطلب منه في هذا الكتاب أن يبعث له بثلاث جواري، على أن يكنّ مولدات أبكارًا، لم ير بمثل جمالهن من قبل قط، وأمره أن يكتب له بصفة كل واحدة منهن وسعرها، وعندما وصل كتابه إلى الحجاج، أمر النخاسين أن يسيروا إلى أقاصي البلاد لكي يحضروا له ما أمر به الخليفة، فداروا في البلاد حتى وجدوا طلب الخليفة، وأحضروهن إلى الحجاج، وعندما أدخلوهن إليه، كتب بكتاب إلى الخليفة، قال له فيه: لقد وصلني كتابك يا مولاي، لقد اشتريت ثلاث جوار كما طلبت، فأما الجارية الأولى فهي لطيفة اللسان، عيونها سوداء، وجنتيها حمراء، فهي كالذهب قد لفّ بالفضة، وهي كما ثال الشاعر:
بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج
كأنها فضة قد شابها ذهب
وثمنها يا مولاي ثلاثون ألف درهم، وأما الثانية فهي فائقة الجمال، تشفي المريض بكلامها، وثمنها ستون ألف درهم، وأما الثالثة فهي لطيفة الكف، شاكرة للقليل مساعدة لمولاها، بديعة الجمال، وثمنها يا مولاي ثمانون ألف درهم، ومن ثم شكر الحجاج الخليفة وأثنى عليه، وطوى الكتاب، وأمر النخاسين أن يسيروا بالجواري إلى الخليفة، ومعهم كتابه، فقال له أحد النخاسين: أصلح الله الأمير، فإني يا مولاي كبير في العمر، ولا أستطيع السفر، فإن شئت بعثت ابني بدلًا مني، فوافق الحجاج، وأمرهم بأن يتجهزوا للسفر.
فخرج القوم ومعهم الجواري من الكوفة، وتوجهوا إلى الشام، وبينما هم في الطريق نزلوا لكي يستريحوا، فنامت الجواري، وبينما هن نائمات هبت الريح فانكشفت قدم إحداهن وهي الكوفية واسمها مكتوم، فرآها ابن النخاس، ففتن بها، فأتاها، وهو يقول:
أمكتوم عيني لا تمل من البكا
وقلبي بأسهم الأسى يترشق
أمكتوم كم من عاشق قتل الهوى
وقلبي رهين كيف لا أتعشق
فأجابته تقول:
لو كان حقا ما تقول لزرتنا
ليلا إذا هجعت عيون الحسد
وفي الليل أتى الشاب، وسيفه معه، وأمسك بالجارية، وأراد أن يهرب معها، ففطن أصحابه، وأمسكوا به، وكتفوه، وساقوه إلى قصر الخليفة، ودخلوا إلى مجلسه، وأعطوه الكتاب، فقرأ ما فيه من صفات الجواري، ووجد أنها تطابق أوصاف اثنتين منهن، ولا تطابق الكوفية، فسألهم عما بها، فأخبروه بخبرها مع ذلك الشاب، وأوقفوا الشاب بين يديه، فأخذ الشاب يبكي بكاءً شديدًا، وأنشد قائلًا:
أمير المؤمنين أتيت رغما
وقد شدت إلى عنقي يديا
مقرا بالقبيح وسوء فعلي
ولست بما رميت به بريا
فإن تقتل ففوق القتل ذنبي
وأن تعفو فمن جود عليا
فسأله الخليفة عن سبب قيامه بذلك، فقال له الغلام: حق رأسك يا مولاي ما هو إلا العشق، فقال له الخليفة: إذن هي لك بكل ما أعددته لها، فأخذها الشاب، وعاد فرحًا إلى دياره.
حالة الشاعر
كانت حالة الشاعر عندما أنشد هذه القصيدة الحزن الشديد من شدة الهوى للجارية، ومعرفته بأنه لا يمكنه الحصول عليها.