يعد المثل الشعبي “لقد أسمعت لو ناديت حيًا” من الأمثال العربية الشهيرة التي تتردد على ألسنة الناس في مختلف المواقف والأزمان. يشير هذا المثل إلى حالة اليأس والإحباط التي يشعر بها الإنسان عندما يوجه نصيحة أو نداء إلى شخص ما ولا يجد أي استجابة أو اهتمام.
لقد أسمعت لو ناديت حيا
شُغف العرب منذ القدم بالأمثال واهتدوا بأذواقهم الفطرية إلى ما فيها من أفكار فذّة وجمال بلاغي، فميزوها على سائر الأحاديث، ورووها أو نسبوها إلى الحكماء والعرّافين والشعراء والأدباء، وكما أنهم نسبوا قضايا وأحداثًا تتمخض عن مثل، أو ما يجري مجرى المثل، إلى الحيوانات والطيور في شكل حكايات وروايات طريفة، فاتخذت صفة الفلسفة والأدب لما فيها من حلاوة تعبير وبلاغة في المعنى وقصر في العبارة تنتمي إلى الأدب، وكذلك ما فيها من عناصر الفكر إلى الفلسفة، وإن كانت تبتعد في انتمائها إلى المنهج الأدبي والفلسفي، مثل قولهم في الأمثال العربية: ” كمجير أُم عامر”.
لا حياة لمن تنادي
“لقد أسمعت لو ناديت حيـًا ولكن لا حياة لمـن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في الرماد”
هذه أبيات شعرية ارتبطت منذ قديم الزمان بمجتمعنا العربي، فنحن كعرب قوم نُشتهر بالفصاحة والبلاغة، وفي أمة العرب أُنزل القرآن الكريم بلغة عربية نقية فصيحة، وقد كان للشعر مكانة كبيرة على مر الزمن، وكان الشعراء دومًا مقربين من بلاط الأمراء والملوك، وكثيرًا ما كانت أشعارهم تعبر عن تجارب ذاتية، أو معاصرة، وهذا البيت أُشتهر به الشاعر عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي، والذي عاش في الفترة بين عامي 525، و 642م، ويقول الشاعر في بعض أبيات له:
ألا غدرت بنو أعلى قديمًا وأنعم إنها ودق المزاد
وكنتم أعبدا أولاد غيل بني آمرن على الفساد
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد.
هذه الأبيات الشعرية، والتي راحت مثلًا، تُقال وتُضرب فيمن لا فائدة فيه ولا رجاء منه، ومهما حاولت نصحه فهو لن يستجب.
ما هي قصة مثل لقد أسمعت لو ناديت حيا
أما قصة هذا البيت من الشعر الذي ذهب بين الناس كمثل، فهو أنه كان في المدينة رجل كثير المال، ليس هناك من هو أغنى منه، وكان له ولد واحد ماتت عنه أمه وهو صغير، فأغدق عليه والده المال والدلال حتى أفسده وكان الأب رجل كريم كثير الصدقة والعطاء، وكان كل صباح يأتي إليه رجل فقير بالسوق فيعطيه كسرات من خبز فطوره، فيجلس إلى جواره حتى يأكل، وبعدها ينصرف، وظل الأمر على هذا الحال لسنوات، حتى اشتد المرض على الأب، وخاف أن يبدد الابن كل ما ترك من مال، فحاول نصحه ولكن دون جدوى.
لقد كان رفاق السوء يحيطون بالابن من كل صوب وحدب، يصمّون أذنيه ويعمون عينيه ويبعدونه عن كل ما فيه خير وإحسان، ذلك أنهم كانوا منتفعين مما هو فيه من ضياع، فهم يعيشون معه في بذخ ومال دون حساب، ولما اقترب الأجل استدعى الأب أخلص خدمه، وأمرهم أن يبنوا سقفًا جديدًا لمجلس القصر تحت السقف القديم، ويصنعوا ما بين السقفين مخزنًا يضعونه به كمية كبيرة من الذهب، وأمرهم أن يصنعوا في السقف بوابة ويضعون بها سلسلة حديدية، إذا تم سحبها للأسفل تنفتح باتجاه الأرض، وفعلًا فعل الخدم كل ما أراد سيدهم، وأبقوا الأمر سرًا عن الابن.
قبل الرحيل استدعى الأب ولده مرة أخيرة، وأعاد فيه النصح والوعظ ولكن دون فائدة، فقال:
“لقد أسمعت إذ ناديت حيًا *** ولكن لا حياة لمن تنادي
لقد أذكيت إذ أوقدت نارًا *** ولكن ضاعَ نفخُكَ في الرمادِ”.
ثم قال له: أي بني إذا ما حانت ساعتي، وإذا فُقد منك كل شيء، وأغلقت الأبواب في وجهك، فأريد منك يا ولدي أن تعدني ألا تفرط في هذا القصر وتبيعه تحت أي ظرف، وإن فكرت يومًا في الانتحار ففي المجلس الكبير سلسلة معلقة اشنق بها نفسك، ومت في قصرك ميتة سهلة مستورة، لم يأخذ الابن كلام أبيه على محمل الجد، وظل رفقاء السوء ينفقون من ماله حتى أفنوه، فكسدت التجارة وبيعت المحلات، ثم البساتين والقصور.
لم يبقَ لهذا الابن التعيس سوى قصر أبيه، أما الأثاث فقد باعه القطعة تلو الأخرى، وانفض الرفاق من حوله، وكرهوا صحبته حتى أنه كلما ذهب إلى أحدهم أنكر وجوده، ورفض لقاءه، وأخذ يردد الأبيات التي تنطبق على ما وصل إليه وضعه:
“رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مالُ
ومن لا عـــنده مالُ فعنه الناسُ قد مالوا
رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة
ومن لا عنده فضة فعنه الناسُ منفضة”.
بالفعل ساءت أحوال الابن، ولم يعد عنده شيئًا يقتات به، لدرجة أن ملابسه قد تمزقت، ونعاله لم يعد يقوَي على السير بها، كل ما كان يجده كسرات من الخبز وقليلًا من الماء، يحضرها لها المسكين الذي كان يعطف عليه أبوه في حياته، لقد ضاقت السبل بالفتى، وغُلّقت في وجهه الأبواب وسُدّت الطرق، وضاقت به الأرض بما رحبت.
قرر الابن اليائس أن يضع حدًا لمأساته وينتحر وهنا تذكر كلام أبيه، وتلك السلسلة المتدلية من سقف مجلس القصر، فأحضر صندوقًا ووقف عليه وربط السلسة حول عنقه، وبعدها أزاح الصندوق بقدميه ليسقط مشنوقًا، فيموت ميتة سهلة يرتاح فيها من الدنيا وكدرها، ولكنه لم يمت، لقد فُتحت البوابة السرية التي بين السقفين حينما انجذبت السلسة لأسفل، وسقطت كميات الذهب الكبيرة على رأس الفتي حتى أغرقته، ففرح فرحًا شديدًا لأن الله قد فرج كربه، وذهب إلى السوق واشترى حلو الطعام واللباس، وجاء بالرجل الفقير، وجعله رفيقًا له يقتسم معه الطعام والهندام، وبدأ في التجارة واسترد أموال أبيه وبساتينه وخدمه.
حين سمع رفاقه القدماء بتغير حاله، وما آل إليه من جاه وغنى، أرادوا أن يعيدوا الوصل والود القديم، فقاموا بإعداد مائدة غداء فاخرة ودعوه إليها، فلبى دعوتهم، ودخل عليهم، غير أنه لم يأكل من الطعام، فكل ما فعله أنه أمسك كُمّ ثوبه، وأخذ يضعه في كل صنف، وبعدها أراد الانصراف، فاستغرب الرفاق عجيب صنعه، وسألوه ماذا يصنع؟ فقال لهم: أنتم ما دعوتموني أنا، أنتم دعوتم أموالي وملابسي، وهذا ثوبي قد لبّى دعوتكم، أما أنا فلا، وانصرف عنهم.