كان ألبير كامو صحفيًا ومحررًا وكاتب تحرير وكاتب مسرحي ومخرج وروائي ومؤلف قصص قصيرة وكاتب مقالات سياسي وناشط، وعلى الرغم من أنّه نفى ذلك أكثر من مرة فقد كان فيلسوفًا، وكذلك على الرغم من أنّ الفيلسوف كامو فصل نفسه بقوة عن الفلسفة الوجودية، إلّا أنّه قد طرح كامو أحد أشهر الأسئلة الوجودية في القرن العشرين، والذي أطلق عليه في عمله أسطورة سيزيف وهذا السؤال هو: “هناك سؤال فلسفي جاد واحد فقط وهو الانتحار“، وقد تركت لنا فلسفته عن العبث صورة مذهلة عن مصير الإنسان، من حيث أنّ سيزيف يدفع صخرته إلى أعلى الجبل ليرى أنّها تتدحرج إلى أسفل في كل مرة يكتسب فيها القمة.
هل كامو فيلسوف وجودي؟
هناك العديد من العناصر المتناقضة في نهج ألبير كامو للفلسفة، ففي مقالته الطويلة بعنوان أسطورة سيزيف (The Myth of Sisyphus) يقدم كامو فلسفة تناقض الفلسفة نفسها، حيث ينتمي هذا المقال بشكل مباشر إلى التقليد الفلسفي للوجودية ولكن كامو نفى كونه وجوديًا، كما يشكك كل من أسطورة سيزيف وأعماله الفلسفية الأخرى المتمرد (The Rebel) بشكل منهجي في الاستنتاجات حول معنى الحياة، ومع ذلك يؤكد كلا العملين بشكل موضوعي على إجابات صحيحة للأسئلة الرئيسية حول كيفية العيش.
على الرغم من أنّ كامو بدا متواضعًا عند وصف طموحاته الفكرية إلّا أنّه كان واثقًا بدرجة كافية كفيلسوف للتعبير ليس فقط عن فلسفته، ولكن أيضًا عن نقد الدين ونقد أساسي للحداثة، فأثناء رفضه فكرة النظام الفلسفي بنى كامو صرحه الأصلي للأفكار حول المصطلحات الرئيسية للسخافة (العبثية) والتمرد (الثورة)، بهدف حل قضايا الحياة أو الموت التي دفعته.
عبثية كامو والفكر الأرسطي:
تتعلق المفارقة الأساسية التي نشأت في فلسفة كامو بمفهومه المركزي عن العبثية، وكذلك بقبول الفكرة الأرسطية بأنّ الفلسفة تبدأ في التساؤل، ويجادل كامو بأنّ البشر لا يستطيعون الهروب من طرح السؤال: ما معنى الوجود؟ ومع ذلك ينفي كامو وجود إجابة على هذا السؤال، ويرفض كل نهاية علمية أو غائية أو ميتافيزيقية أو من صنع الإنسان والتي من شأنها أن تقدم إجابة مناسبة.
وهكذا بينما يقبل أنّ البشر يسعون حتمًا إلى فهم الغرض من الحياة، يتخذ كامو موقفًا متشككًا بأنّ العالم الطبيعي والكون والمشروع البشري يظلون صامتين بشأن أي غرض من هذا القبيل، وبما أنّ الوجود نفسه ليس له معنى يجب أن نتعلم أن نتحمل فراغًا لا يمكن حله، وهذا الموقف المتناقض إذن بين دافعنا لطرح الأسئلة النهائية واستحالة تحقيق أي إجابة مناسبة وهو ما يسميه كامو بالسخف، وتستكشف فلسفة كامو عن العبث العواقب الناشئة عن هذا التناقض الأساسي.
إن أفضل طريقة لفهم كامو للعبثية هو التقاطها في صورة وليس حجة: فعن سيزيف يجهد لدفع صخرته إلى أعلى الجبل، ومشاهدتها تتدحرج ثم ينزل بعد الصخرة ليبدأ من جديد في دورة لا نهاية لها، ومثل سيزيف لا يمكن للبشر إلّا أن يستمروا في التساؤل عن معنى الحياة وفقط ذلك من أجل رؤية إجاباتنا تتراجع.
إذا قبلنا هذه الأطروحة حول العبثية الأساسية للحياة ونهج كامو المناهض للفلسفة تجاه الأسئلة الفلسفية، فلا يسعنا إلّا أن نسأل: ما هو الدور المتبقي للتحليل العقلاني والحجة؟ وألّا يترأس الفيلسوف كامو موت الفلسفة في إجابته على السؤال: هل ينتحر بالتخلي عن ساحة الجدل والتحليل والتحول إلى الاستعارة للإجابة عليها؟ وإذا لم يكن للحياة أي هدف أو معنى أساسي يمكن للعقل التعبير عنه فلا يسعنا إلّا أن نسأل عن سبب استمرارنا في العيش والعقل.
ألّا يمكن أن يكون سيلينوس محقًا في إعلانه أنّه كان من الأفضل ألّا يولد أو يموت بأسرع ما يمكن؟ وكما كتب فرانسيس جينسون قبل فترة طويلة من انتقاده الشهير للمتمرد الذي عجل بالفتق بين كامو وسارتر: “فإنّ الفلسفة العبثية ليست فلسفة عبثية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا فلسفة على الإطلاق بل موقفًا مضادًا للعقلانية ينتهي بالصمت؟”.
الفيلسوف كامو:
هل كان كامو فيلسوفًا بالفعل؟ لقد أجاب كامو بنفسه على هذا السؤال فقال لا، ففي مقابلة شهيرة مع جانين ديلبش (Jeanine Delpech) في الأخبار الأدبية (Les Nouvelles Littéraires) في تشرين الثاني من عام 1945، وأصر على أنّه: “لم يؤمن بما يكفي في سبب الإيمان بنظام ما”، ولم يكن هذا مجرد موقف عام لأننا نجد نفس الفكرة في دفاتر ملاحظاته في هذه الفترة، بحيث يصف نفسه بأنّه فنان وليس فيلسوفًا لأنّه: “أفكر وفقًا للكلمات وليس وفقًا للأفكار”.
ومع ذلك رأى الفيلسوف جان بول سارتر على الفور أنّ كامو كان يقوم بعمل فلسفي مهم، وفي مراجعته للكتاب الغريب فيما يتعلق بسيزيف لم يجد صعوبة في ربط كامو بباسكال وروسو ونيتشه، وبعد أن أصبحا أصدقاء تحدث سارتر علنًا عن فلسفة العبث لصديقه والتي ميزها عن تفكيره الذي قبل من أجلها التسمية الوجودية التي رفضها كامو.
في السنوات التي تلت ذلك فإنّ الطبيعة الواضحة لفلسفته غير المنهجية بل والمناهضة للنظام، كما تعني أنّ عددًا قليلاً نسبيًا من العلماء قد قدر عمقها وتعقيدها الكاملين، ولقد أشادوا في كثير من الأحيان بإنجازاته الأدبية الشاهقة ووقوفه كخبير أخلاقي سياسي بينما أشاروا إلى ادعاءاته المشكوك فيها وحججها الإشكالية، كما أنّ الاستثناء الأخير المهم لهذا هو نقد الحداثة لألبير كامو للكاتب والمعلم رونالد سريجلي.
يعد تناقض كامو المتعمد كفيلسوف أثناء مناقشة فلسفته، فهو لا يتعلق الأمر فقط بإعطاء قراءة فلسفية لهذا الكاتب المسرحي والصحفي وكاتب المقالات والروائي، بل يتعلق بأخذ كتاباته الفلسفية على محمل الجد من حيث استكشاف مقدماتها وتطورها وبنيتها وتماسكها، كما إنّ القيام بذلك يعني أن نرى أنّ كتاباته تحتوي على أكثر من حالة مزاجية وأكثر من الصور والتأكيدات الكاسحة غير المدعومة، على الرغم من أنّها تحتوي على العديد من كليهما.
يأخذ كامو شكوكه إلى أقصى حد ممكن كشكل من أشكال الشك المنهجي -أي أنّه يبدأ من افتراض الشك- حتى يجد أساسًا لاستنتاج غير متشكك، وهو يبني بناءًا فلسفيًا فريدًا وغالبًا ما تُترك مقدماته دون ذكر ولا يُناقش دائمًا بشكل واضح، ولكنه يتطور في مراحل متميزة على مدار حياته القصيرة، وهكذا يمكن قراءة فلسفة كامو على أنّها جهد مستمر لإثبات وليس مجرد تأكيد ما تنطوي عليه عبثية الوجود البشري، وفي هذه العملية يجيب كامو على الأسئلة التي طرحتها أعماله الفلسفية أسطورة سيزيف: “لماذا لا أقتل نفسي؟”، وكذلك عمله المتمرد: “لماذا لا أقتل الآخرين؟”