اقرأ في هذا المقال
مفهوم الاغتراب في الفلسفة الوجودية:
تنتج النظرة المناهضة للديكارتيين عن الذات في الموقف الفكرة الوجودية المألوفة للذات “المغتربة” أو ما يدعى اغتراب الذات عن العالم وعن نفسه.
في المقام الأول بينما يأخذ العالم معنى من خلال “مشاريعي – التعالي”، فإنّ العالم نفسه لا يتم إحضاره إلى الوجود من خلال “مشاريعي”، حيث إنّه يحتفظ بأسلوبه الآخر، وبالتالي يمكن أن يأتي على أنّه غريب تمامًا، مثل unheimlich، والتي تُترجم أحيانًا على أنّها “غريب”، فهذه الكلمة الهايدجية (Heim ، “الوطن“) تشير إلى غرابة العالم الذي لا أشعر فيه على وجه التحديد بأنني “في بيتي”، وهذه التجربة الأساسية للفكر الوجودي تتناقض بشكل حاد مع الفكرة القديمة لكوسموس حيث يكون للبشر مكان منظم جيدًا وهي تربط الفكر الوجودي ارتباطًا وثيقًا بالتجربة الحديثة لكون لا معنى له.
في المقام الثاني يشمل العالم أشخاصًا آخرين ونتيجة لذلك فأنا لست مجرد كاشف للعالم بل شيء تم الكشف عنه في مشاريع هؤلاء الآخرين، وبالتالي فإنّ هويتي ليست مجرد وظيفة لمشاريعي الخاصة بل هي أيضًا مسألة “كوني من أجل الآخرين”.
نظرية سارتر في الاغتراب:
يبرز سارتر هذا الشكل من الاغتراب في تحليله الشهير “النظرة”، فطالما أنني منخرط بشكل غير تأمل في ممارسة معينة، فأنا لست سوى منظور الشخص الأول الذي يشكل الأشياء على أنّها تتمتع ببروز مميز في ضوء ما أفعله، وأنا منغمس في العالم ولا أجرب نفسي على أنّه “خارج”، أي لا أفهم أفعالي من خلال وصف الشخص الثالث كمثال على بعض السلوك العام.
ومع ذلك عندما أدرك أنّه يتم النظر إلي (أي عندما تغزو شخصيتي من خلال ذاتية شخص آخر أنا بالنسبة لي مجرد جزء من العالم وعنصر لمشاريعها)، فإنني أدرك أنّ لدي “طبيعة – شخصية” وذلك لوجود أو فعل شيء ما، فأنا لا أنظر فقط عبر ثقب المفتاح، بل أنا متلصص، ولا يمكنني في الأصل تجربة نفسي كشيء من مثل متلصص.
ويمكن للآخر فقط أن يولد هذا النمط من كياني وهو نمط أعترف به على أنّه رأيي (وليس مجرد رأي الآخر عني) في الخزي الذي أسجله فيه، فنظرًا لوجود آخرين في العالم يمكنني أن آخذ منظور الشخص الثالث تجاه نفسي، لكن هذا يكشف إلى أي مدى أعزل عن بُعد من كوني أي من أنا بالمعنى الموضوعي يمكن الكشف عنه في الأصل فقط بالآخر، وهذا له آثار على النظرية الاجتماعية الوجودية.
أخيرًا فهم الذات أو المشروع الذي بفضله يوجد العالم من أجلي بطريقة ذات مغزى بحيث ينتمي بالفعل إلى ذلك العالم المشتق منه التقاليد أو المجتمع الذي أجد نفسي فيه، وعلى الرغم من أنّه “أنا”، إلّا أنه ليس “أنا”، حيث إنّ إهتمامي جداً في العالم يبعدني عن احتمالي الحقيقي.
فلقد أوضح هايدجر هذا الموضوع بشكل أوضح من حيث أنّ الفكرة المناهضة للديكارتي بأنّ الذات تُعرَّف أولاً وقبل كل شيء من خلال انخراطها العملي، وتستلزم أن هذه الذات ليست فردية بشكل صحيح، بل لا يمكن تمييزها عن أي شخص آخر (داس مان) يشارك في مثل هذه الممارسات، مثل هذا “هم أنفسهم” يفعل ما يفعله “واحد”.
الفكرة هي شيء من هذا القبيل أي يمكن للممارسات أن تسمح للأشياء بالظهور على أنّها ذات مغزى مثل المطارق أو الأوراق النقدية بالدولار أو الأعمال الفنية، لأنّ الممارسات تتضمن أهدافًا تحمل معها المعايير وشروط الرضا لما يظهر فيها، لكن القواعد كما أظهر فتجنشتاين، عامة في الأساس وهذا يعني أنّه عندما أشارك في ممارسة ما، يجب أن أكون قابلاً للتبادل مع أي شخص آخر يفعل ذلك مثل أنا آكل كما يأكل، وأقود السيارة كذلك، حتى أنني أعترض كما يحتج المرء.
إلى الحد الذي يجب أن يكون فيه نشاطي مثالاً على مثل هذه الممارسة، يجب أن أفعل ذلك بالطريقة العادية، ويمكن التعرف على الانحرافات على أنّها (ربما مفيدة) فقط ضد هذه القاعدة، ولكن إذا انحرفت كثيرًا فلا يمكن التعرف عليها على الإطلاق، وبالتالي إذا تم تحديد هويتي من خلال الوجود، فإنّ هذا من عادة ما يتم تحديده مسبقًا بما هو متوسط، من خلال الأدوار المتاحة لي في ثقافتي، وبالتالي فإنّ “أنا” التي يتم تعريفها هي “مجهول” أو “أي شخص”، وإنّ صناعة الذات هي إلى حد كبير وظيفة عدم تمييز نفسي عن الآخرين.
إذا كان هناك مع ذلك معنى جيد في الحديث عن تفرد وجودي، فلن يكون الأمر كشيء يبدأ به المرء ولكن كشيء يتحقق في استعادة الذات من الاغتراب أو الضياع في “الحشد”، وإذا كان المعيار طبيعيًا في المقام الأول، فقد يبدو أنّ الحديث عن معيار لتفرُّد الوجود، ومعيار للتفكير في ما هو أقصى ما لدي تمامًا مثلي وسيكون غير متماسك، وهنا يأتي التركيز على فكرة “الأصالة”.
مفهوم الأصالة في الفلسفة الوجودية:
بأي معيار نفكر في جهودنا “لتكون” طريقتنا في أن نكون أنفسنا؟، فإذا كانت هذه المعايير مستمدة تقليديًا من الجوهر الذي ينشئه شيء معين فهذه المطرقة تكون جيدة إذا قامت بتجسيد ما يفترض أن تكون عليه المطرقة، وإذا لم يكن هناك شيء يفترض أن يكون الإنسان بحكم جوهره فهل يمكن التفكير في معنى الوجود على الإطلاق؟.
تنشأ الوجودية مع انهيار فكرة أنّ الفلسفة يمكن أن توفر معايير موضوعية للقواعد الموجودة، والتي تحدد طرقًا معينة للحياة، ومع ذلك لا يزال هناك تمييز بين ما أفعله “بصفتي” و “أي شخص”، لذا فإنّ الوجود بهذا المعنى هو شيء يمكنني أن أنجح فيه أو أفشل فيه، وكلمة الأصالة باللغة الألمانية Eigentlichkeit والتي تسمي هذا الموقف الذي أشارك فيه في مشاريعي على أنّه خاص بي (eigen).
ربما يمكن إبراز ما يعنيه هذا من خلال النظر في التقييمات الأخلاقية، وفاءً بوعدي أعمل وفقًا لواجبي، وإذا احتفظت به لأنّه واجبي، فأنا أيضًا أتصرف بشكل أخلاقي (وفقًا لكانط) لأنني أتصرف من أجل الواجب، لكن من الناحية الوجودية لا يزال هناك تقييم إضافي يتعين القيام به، حيث إنّ أفعالي الأخلاقية غير صحيحة إذا كنت أفعل ذلك من أجل الوفاء بوعدي من أجل الواجب لأنّ هذا هو ما يفعله “المرء” (أو ما يفعله “الأشخاص الأخلاقيون”).
لكن يمكنني أن أفعل الشيء نفسه بشكل أصيل، إذا كان التصرف بهذه الطريقة أمرًا أختاره على أنه ملكي بصرف النظر عن عقوبته الاجتماعية فأنا ألزم نفسي به، وبالمثل فإنّ القيام بالشيء الصحيح من خلال شخصية ثابتة ومستقرة والتي تعتبرها الأخلاق الفضيلة شرطًا للخير ليس بعيدًا عن متناول التقييم الوجودي، أي قد تكون هذه الشخصية ببساطة نتاجًا لميولي إلى “فعل ما يفعله المرء” بما في ذلك الشعور “بالطريقة الصحيحة” تجاه الأشياء والرهان على نفسي بطرق مناسبة كما هو متوقع من المرء.
لكن مثل هذه الشخصية قد تكون أيضًا انعكاسًا لاختياري لنفسي، وهو التزام أقوم به لأكون شخصًا من هذا النوع، وفي كلتا الحالتين نجحت في أن أكون جيدًا فقط في الحالة الأخيرة، ونجحت في أن أكون نفسي. وهكذا فإنّ معيار الأصالة يشير إلى نوع من “الشفافية” فيما يتعلق بوضعي، والاعتراف بأنني كائن يمكن أن أكون مسؤولاً عن هويتي، وعند الاختيار في ضوء هذا المعيار يمكن أن يقال إنني أسترد نفسي من الاغتراب، ومن استغرابي في “الذات الواحدة” المجهولة التي تميزني في مشاركتي اليومية في العالم.
تشير الأصالة بالتالي إلى نوع معين من النزاهة – ليس كلاً معطى مسبقًا، هوية تنتظر من يكتشفها، ولكن مشروع يمكنني إما أن ألزم نفسي به (وبالتالي “أصبح” ما يستلزمه) أو غير ذلك ببساطة شغل لبعض الوقت، ومن ثم الانجراف غير الأصيل داخل وخارج الأدوار المختلفة.
اتخذ بعض الكتاب هذه الفكرة خطوة إلى الأمام بحجة أنّ مقياس الحياة الأصيلة يكمن في تكامل السرد، وأنّ تكون الذات يعني تكوين قصة يسود فيها نوع من الكمال ليكون المرء مؤلفًا للنفس، وكفرد فريد (Nehamas نيهاماس 1998 ، Ricoeur ريكور 1992).
وعلى النقيض من ذلك فإنّ الحياة الزائفة ستكون واحدة بدون مثل هذه النزاهة، فحياة أسمح فيها للعالم أن يملي قصة حياتي، ومهما كان الأمر فمن الواضح أنّه يمكن للمرء أن يلتزم بحياة متنوعة تشبه الحرباء كما يفعل دون جوان في نسخة Kierkegaard من الأسطورة، حتى عند تفسيرها سرديًا تظل قاعدة الأصالة رسمية كما هو الحال مع فارس الإيمان لكيركجارد بحيث لا يمكن للمرء أن يعرف من هو الأصيل من خلال النظر إلى محتوى حياتهم.
وتحدد الأصالة شرطًا على صناعة الذات أي هل أنجح في صنع نفسي؟ أم أنّ من أنا مجرد وظيفة للأدوار التي أجد نفسي فيها؟ وبالتالي يمكن أيضًا التفكير في أن تكون أصيلًا كطريقة للاستقلال الذاتي، وباختياري “بحزم” أي بإلزام نفسي بمسار عمل معين وطريقة معينة للوجود في العالم، أعطيت نفسي القاعدة التي تنتمي إلى الدور الذي أتبناه.
وعلى النقيض من ذلك فإنّ الشخص غير الأصيل يشغل مثل هذا الدور فقط، وقد يفعل ذلك “بتردد” ودون التزام، فكوني أباً بطريقة أصيلة لا يجعلني بالضرورة أباً أفضل، لكن معنى أن أكون أباً أصبح صراحة شاغلي، هنا تحدد الوجودية تفرد الوجود وتحدد ما لا يمكن اختزاله في موقف المتكلم.
في الوقت نفسه لا تقدم الأصالة أسلوبًا معينًا للحياة كقاعدة، أي أنّه لا يميز بين المشاريع التي قد أختارها، وبدلاً من ذلك فهو يحكم الطريقة التي أشارك بها في مثل هذه المشاريع، إما على أنّها “خاصتي” أو “بما يفعله المرء” بشفافية أو مبهمة.
وبالتالي فإنّ تركيز الوجودية على الأصالة يؤدي إلى موقف مميز تجاه الأخلاق ونظرية القيمة بشكل عام، فإنّ إمكانية الأصالة هي علامة على حريتي، ومن خلال الحرية تقترب الوجودية من مسائل القيمة، مما يؤدي إلى العديد من مذاهبها الأكثر شهرة.