فلسفة التاريخ وصعوبات نشر كتاب العلم الجديد للفيلسوف فيكو

اقرأ في هذا المقال


“يحمل العلم السياسي معه دراسة التقوى بشكل لا ينفصم، وأنّ من هو غير تقي لا يمكن أن يكون حكيمًا حقًا.”

الفيلسوف جيامباتيستا فيكو

صعوبات نشر كتاب العلم الجديد:

وفقًا لسيرة الفيلسوف فيكو الذاتية ونظرًا لأنّه يفتقر إلى المال لنشر النص الكامل لعمله باع فيكو الجوهرة الوحيدة التي يمتلكها وهي عبارة عن خاتم العائلة وقلص كتابه بمقدار الثلثين، حيث ظهرت في عام 1725 تحت عنوان ( العلم الجديد – Scienza nuova) ولكنها للأسف لم تنجح، وكان قد اشتكى فيكو بمرارة من اللامبالاة العالمية التي تثيرها تحفته، وبعد ذلك سرعان ما استعاد ثقته بنفسه وعاد إلى عمله بطاقة، وكان عقله مزدحمًا بالأفكار لكن ترتيبها وتنظيمها كان مهمة شاقة بالنسبة له، وكان يعتقد أنّه شاعر لا ديالكتيك (أي بمعنى شاعر الجدلي العالم بالمنطق) ومع ذلك بدأ في مراجعة شاملة وإعادة هيكلة لعمله.

كما كشف فيكو في سيرته الذاتية عن أمل عابث قد ولد فيه عندما كتب جان لوكلير Jean Leclerc الموسوعي وأحد أعظم العلماء في ذلك الوقت من أمستردام في عام 1722 طالبًا معلومات عنه، حيث أرسل فيكو أطروحته القانونية المكونة من مجلدين إليه وخصص لوكلير Leclerc سبعة عشر صفحة من عمودين في طبعة 1722 من كتابه (Bibliothèque ancienne et moderne – المكتبة القديمة والحديثة) إلى فيكو.

ومع ذلك كان هذا تافهًا مقارنة بالصفحات السبعين المخصصة لباولا ماتيا دوريا (Paola Mattia Doria) صديقة فيكو من صالونات نابولي. وتم خيانة أمله بشكل أكبر عندما لم يتم ذكر (العلم الجديد – Scienza nuova) في المجلدات اللاحقة من (مكتبة – Bibliothèque) المحتفى به.

ثم اكتملت جهود فيكو لإعادة هيكلة تحفته لتكون النسخة الثانية من (العلم الجديد -Scienza nuova) حيث كانت في الواقع الطبعة الرابعة، وإذا تم أخذ الخطوط العريضة الواردة في الأطروحة القانونية والأجزاء المكتوبة بين الأعوام 1729 و 1732 في الاعتبار، فإنّ الإصدار النهائي الذي ظهر بعد وفاته في عام 1744، ومع ذلك كان يحمل علامة (terza impressione – الإصدار الثالث) وتم تصميمه وفقًا لخطة مختلفة جدًا ومعدلة بشكل كبير.

نشر الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو طبعة ثالثة في عام 1744 والتي تم تحريرها لاحقًا بواسطة فاوستو نيكوليني Fausto Nicolini وظهرت في عام 1928، والذي كان مسؤولًا عن تحديث علامات الترقيم لدى فيكو وتقسيم العمل إلى هيكله الحالي من الفصول والأقسام والفقرات المرقمة ولم يتم توفيره في الأصل من قبل فيكو نفسه، حيث أشار نيكوليني إلى نسخته على أنّها (Scienza Nuova seconda-Second New Science) أو ببساطة العلم الجديد والتي بموجبها تُعرف النسخة النهائية اليوم، والذي احتوى على فلسفة فيكو الشاملة في اللغة والحكمة والتاريخ والسببية وغيرها من العلوم.

فلسفة التاريخ لدى فيكو في عمله العلم الجديد:

من وجهة نظر فيكو إنّ تقدير التاريخ يأتي على أنّه:

  • مثالي: في آن واحد لّأنه لم يتم تحقيقه تمامًا.
  • أبدي: لّأنه يعكس وجود نظام إلهي أو العناية الإلهية التي توجه تطور المؤسسات البشرية.

ولا تحتاج الأمم أن تتطور بنفس الوتيرة فالأقل تطوراً يمكن أن يتعايش مع من هم في مرحلة أكثر تقدمًا ولكنهم جميعًا يمرون بنفس المراحل المتميزة (كورسي أي عصور الآلهة والأبطال والرجال) ويقول فيكو إنّ الأمم تتطور وفقًا لهذا التقسيم وبترتيب ثابت وغير منقطع للأسباب والآثار الموجودة في كل أمة وتتميز في كل مرحلة، وبالتالي تاريخ أي أمة بظهور القانون الطبيعي الخاص بها واللغات المتميزة (العلامات والاستعارات والكلمات) والحكومات (الكومنولث الإلهي والأرستقراطي والكومنولث والملكيات الشعبية) وكذلك أنظمة الفقه (اللاهوت الصوفي والفقه البطولي والإنصاف الطبيعي للكومنولث الحر) التي تحددها.

بالإضافة إلى تحديد المراحل المميزة التي يتطور من خلالها النظام الاجتماعي والمدني والسياسي يعتمد فيكو على كتاباته السابقة لتتبع أصل الأمم إلى سمتين مميزتين للطبيعة البشرية:

  • عصر الآلهة.
  • عصر الأبطال ناتجة عن الذاكرة والإبداع وأفعال الخيال (فنتازيا).
  • عصر الرجال في حين أن هذا العصر ينبع من قوة “التفكير” الانعكاس.

مفهوم الدورية للتاريخ لدى فيكو:

“معيار الحق وقاعدته هو تحقيقه، ووفقًا لذلك لا يمكن أن تكون فكرتنا الواضحة والمتميزة عن العقل معيارًا للعقل نفسه، ولا يمكن أن تكون معيارًا للحقائق الأخرى لأنّه بينما يدرك العقل نفسه فإنّه لا يصنع نفسه.”

الفيلسوف جيامباتيستا فيكو

على الرغم من أنّ التاريخ يكشف من وجهة نظر عامة عن تقدم الحضارة من خلال تحقيق إمكانات الطبيعة البشرية، إلّا أنّ فيكو يؤكد أيضًا على السمة الدورية للتطور التاريخي حيث يتقدم المجتمع نحو الكمال ولكن دون الوصول إليه (وبالتالي فإنّ التاريخ مثالي)، ويتقطع كما هو بسبب الانقطاع أو العودة (ريكورسو) إلى حالة أكثر بدائية نسبيًا.

ومن هذا الانعكاس يبدأ التاريخ مساره من جديد وإن كان ذلك من النقطة الأعلى التي وصل إليها بالفعل بشكل لا رجعة فيه، ويلاحظ فيكو أنّه في الجزء الأخير من عصر الرجال (يتجلى في مؤسسات وعادات إقطاعية القرون الوسطى) تعود “البربرية” التي تمثل المراحل الأولى للمجتمع المدني كمرض مدني لإفساد الجسم السياسي من الداخل.

وتميز هذا التطور بانحدار الكومنولث الشعبي إلى ممالك بيروقراطية وبقوة المشاعر غير المقيدة وعودة الأخلاق الفاسدة التي ميزت مجتمعات الآلهة والأبطال السابقة، ولكن من هذه “البربرية الثانية” سواء من خلال ظهور المشرعين الحكماء أو صعود الأصلح أو آخر بقايا الحضارة يعود المجتمع إلى “البساطة البدائية لعالم الشعوب الأول” والأفراد هم مرة أخرى متدينون وصادقون ومؤمنون، ومن هذا يبدأ كورسو جديد رآه فيكو واضحًا في عصره على أنّه “العصر الثاني للرجال” الذي يتميز بالدين المسيحي “الحقيقي” والحكومة الملكية في أوروبا في القرن السابع عشر.

بالإضافة إلى وصفه لأصول وتاريخ المجتمع المدني الذي تم تطويره في العلم الجديد (The New Science) حيث يقدم فيكو أيضًا أطروحة أصلية للغاية حول أصل وشخصية شعر هوميروس والتي أشار إليها باسم “اكتشاف هوميروس الجديد”، حيث يلاحظ فيكو أنّ المشاعر المبتذلة والعادات المبتذلة تزود الشعراء بالمواد المناسبة لهم، وبالنظر إلى أنّه في عصر الأبطال شكلت هذه العادات وحشية والحالة غير المعقولة للطبيعة البشرية والتي لا يمكن لشعر هوميروس أن يكون الحكمة الباطنية أو العمل الإبداعي لفرد واحد كما افترض العلماء ولكنه يمثل المسلمات الخيالية للشعب اليوناني نفسه.

وهكذا يحتوي الشعر الهوميري على النماذج أو الصور المثالية التي تشكل القاموس العقلي للقدماء ويشرح المكان الذي خصصه فيكو لهوميروس في مقدمة الكتاب حيث يمثل تمثاله أصول المجتمع البشري في الحكمة الشعرية، وهكذا يطبق فيكو مذهبه الخاص بالعموم التخيلي على حالة هوميروس ويخلص إلى أنّه على الرغم من أنّها تمثل حقبة مشهورة في التاريخ إلّا أنّها لم تحدث في العالم.

حيث كان هوميروس التاريخي ببساطة رجل الشعب ومتميزًا تمامًا عن المؤلف المزعوم للأوديسة والإلياذة الذي كان في الواقع شاعرًا مثاليًا بحتًا لم يكن أبدًا، وكانت موجودة في عالم الطبيعة لكنها كانت فكرة أو شخصية بطولية من الرجال اليونانيين بقدر ما سردوا تاريخهم في أغنية.


شارك المقالة: