منهجية بلونديل الفلسفية

اقرأ في هذا المقال


سمي موريس بلونديل بسبب منهجية عمله (هيجلالفرنسي) و(هيجل الكاثوليكية)، حيث يطور بلونديل في أعماله الرئيسية معالجات جدلية لمجموعة من مستويات الظواهر قيد البحث، بدءًا من المتطلبات التي يفرضها الموضوع نفسه، حيث إنّه يعالج مستوى موضوع التمثيل في وقت مبكر في كل من أعماله، ويوضح أولاً أنّه لا يمكن اختزال الموضوع إلى أي نوع أو ترتيب موضوعي، وتكمن أوجه التشابه مع الاستخدام الهيجلي للديالكتيك في اهتمام بلونديل بهياكل الوساطة ودور النفي الحتمي.

فلسفة مفهوم المتعالي:

إنّ الإشارة إلى تحديد الجوهري بواسطة المتعالي لا يعني إحالة ترتيب المحايثة ببساطة إلى ترتيب التعالي أو إلى لحظة مفردة متسامية، بل يعني الكشف عن هياكل الوساطة التي يتم من خلالها التوسط في ترتيب الجوهر بواسطة الهيكل بأكمله من المتعالي، بما في ذلك المستويات الأخرى المتسامية نسبيًا إلى المستوى الذي يتم التعامل معه على أنّه متسامي فيما يتعلق بالترتيب الجوهري وترتيب الظواهر قيد التحقيق.

على سبيل المثال النظام الاجتماعي متسامى مع ترتيب الأفراد ويتوسطهم فيما يتعلق ببعضهم البعض وفي علاقة الذات بذاتها، لكن النظام الاجتماعي نفسه يتوسطه بنى اجتماعية أكبر للتاريخ المشترك، وبواسطة ترتيب الدين فيما يتعلق في نهاية المطاف بالإله المسيحي.

وهذا يتطلب أن تنتقل وجهة النظر والتحليل والوصف من الترتيب الجوهري إلى المتعالي مسترشدة بهيكل الوساطة، وهذا يعني أنّ النظام الجوهري كما في الإلغاء الهيجلي لا يتم اختزاله أو إبطاله من قبل المتعالي قيد التحقيق الآن، بل يتم الحفاظ عليه وتأكيده كجزء لا يتجزأ من الهيكل والنظام الأكبر المعترف به ببساطة على أنّه غير كافٍ لذاته و بوساطة النظام المتعالي.

هذا الاعتراف من خلال عملية التحقيق في النظام الجوهري بالحاجة إلى التعالي لكي تمتلك الظواهر الجوهرية معناها ووجودها، ومشابه لنفي هيجل المحدد حيث نفي الأطروحة ونقيضها ينبثق من العمل التاريخي للحقيقة ومعنى الأطروحة، ومن خلال التحقيق الكامل في النظام الجوهري ومعاملته مؤقتًا كما لو كان مكتفًا ذاتيًا بالكامل ومناسبًا لنفسه، ويشير النظام إلى سلبيته الخاصة ومتطلباته للتعالي.

فلسفة علم الوجود:

إنّ اهتمام بلونديل بهياكل الذات الفردية في بدايات أعماله لا يعكس على الإطلاق التزامًا بأنطولوجيا من شأنها أن تأخذ هؤلاء الأفراد كأولوية، وقبل الأنطولوجيا على المستويات الأخرى للبنية ولا سيما المستوى الاجتماعي و ديني والذي يتحول إليه لاحقًا، وفي الواقع فإنّ استخدامه لأسلوب المحايثة له غرضه وهدفه للإشارة إلى التداخل بين تلك الهياكل ذات المستوى الأعلى المتعالي على الفرد في الهياكل ذاتها التي يوجد بها الفرد والفاعل التمثيلي.

يتضمن هذا بلونديل في نوع من العودة إلى الواقعية حول المسلمات والبنى الاجتماعية والواقعية، مع ذلك التي تظل كائناتها مقيدة بنفس غير مكتملة، ومن الناحية الوجودية يمكن للمرء أن يضع هذا بالطريقة التالية، فلا يمتلك الأفراد والأشياء الفردية كيانًا كاملاً ولكن الهياكل التي تحدث فيها لا تتمتع أيضًا بكينونة كاملة، فمن حيث الذات والموضوع يمكن للمرء أن يقول أنّ كلاً من الذات والموضوع لهما قصور وجودي والذي لا ينفي في نفس الوقت واقعهما أو وجودهما.

الأنطولوجية الهيجلية:

بينما بالنسبة لهيجل وجد النظام وحدته في موضوع المعرفة المطلقة الذي تم التعامل معه لاحقًا على أنّه الموضوع الفلسفي أو الروح المطلق، وبالنسبة إلى بلونديل تأتي الوحدة النهائية في الإله المسيحي باعتباره الخالق الذي يظل خارج نطاق الوصف والعلاقات وهياكل الظواهر، ولذلك يرفض بلونديل إصرار هيجل على أنّ العلاقة بالمطلق يجب في النهاية أن تتجاوز التمثيل (Vorstellung) وتفترض حالة الروح المطلقة الواعية لذاتها فيما يتعلق بالآخر.

كما يرفض بلونديل أيضًا عقيدة هيجل القائلة بأنّه في نهاية عملية التطور ولم يعد كل اختلاف في الشكل ولكن الاختلاف في المحتوى فقط، وبالنسبة إلى الفاعل البشري الذي يتصرف ويفكر ويكون وبالنسبة إلى المطلق لم ينته التاريخ ولا تزال البشرية منخرطة في العمليات التي تنطوي أيضًا على التطور والاختلاف في الشكل والمحتوى، ممّا يعني أنّ لا يمكن لأي مجموعة فرضية أو نظرية من العقيدة أن تدعي بشكل شرعي الكفاية الكاملة، بينما في نفس الوقت تظل عملية التنمية واحدة تسكنها وتوجهها العقلانية التي يمكن للإنسانية والفعل الفاعل المشاركة فيها بشكل كامل.

نهج بلونديل الظواهرية:

استخدام بلونديل لطريقة المحايثة (وهو مصطلح مأخوذ في الأصل من أعمال إدوارد لو روي) يحمل تشابهًا قويًا مع الأساليب المستخدمة من قبل الحركات الفلسفية الأخرى في ذلك الوقت، وفي ذلك يرفض بلونديل صراحة أي شيء مثل عصر هوسرليان لأنّه يقدم افتراضًا غير مبرر لإمكانية تعليق الادعاءات بالوجود وكذلك فك الارتباط عن السلوك العملي والأخلاقي، وهذا بدوره لا يسمح بإدراك معنى الظواهر الأخلاقية والعملية، ولكي يتم استيعابها فإنّ طريقة بلونديل في الوصول إلى الظواهر لها علاقة أوثق بظواهر ماكس شيلر وموريس ميرلو بونتي.

منذ اللحظة التي أطرح فيها مشكلة العمل النظرية وعندما ادعي اكتشاف الحل العلمي لم أعد أعترف، على الأقل مؤقتًا ووجهة النظر المختلفة تلك وبقيمة أي حل عملي، فالكلمات المعتادة عن الخير والشر والواجب والذنب التي استخدمتها منذ تلك اللحظة فصاعدًا مجردة من المعنى حتى من وجود مكان يمكنني أن أعيد لها كاملها.

يطور شيلر تسلسلاً هرميًا للقيم وهو ليس مجرد تسلسل هرمي للمعاني المتعلقة ببعضها البعض ولكنه أيضًا نظام تكوين، ويسترشد في النهاية بقيمة الكرسي الذي يعترف في نفس الوقت بالاكتفاء النسبي والنقص المطلق للآخر، فالأوامر (المنفعة والمتعة والحياة والثقافة) والتغلغل المستمر لهذه الأنظمة الأخرى من قبل المتعالي كقدوس.

يركز ميرلو بونتي باستمرار على ديالكتيك الحاضر والغائب أو الافتراضي بوساطة هياكل العاطفية والجسم البشري، وهو نفس الوقت بقدر ما هو جسم بشري اجتماعي و موجهة نحو التعالي، ومن ناحية أخرى فإنّ إصرار بلونديل على الانخراط في هذه الظاهرة كشرط لمعرفتها يحمل الكثير من القواسم المشتركة مع ما تدعي الظواهر في أفضل حالاتها وأنّها تتطلب العودة إلى الأشياء نفسها.

تحليل قراءات بلونديل الفلسفية:

تحمل قراءات بلونديل للرموز الفلسفية الأخرى أيضًا تشابهًا صارخًا مع نوع القراءة التي تتم تحت عنوان التفكيك، ومع ذلك هناك بعض الاختلافات الرئيسية في كل من الهدف وطريقة القراءة، وأسلوب بلونديل في القراءة هو قراءة النص بالكامل وتجنب الجدل واتخاذ مواقف موحَّدة حتى يتم فهم المذاهب المتقدمة في النص بشكل كافٍ.

ثم يشرع في تطوير هذه العقائد أو الأطروحات إلى أقصى حد لها متصرفًا كما لو كانت صحيحة حتى يرى أيضًا نوع العواقب التي قد تترتب على موضوع التفكير والتصرف، فالهدف هو تقييم مدى ملاءمة المذاهب على أنّها تمثيل للموقف الفلسفي ويتكون هذا من جزأين وهما:

1- أولاً هناك مسألة كفاية التمثيل.

2- ثانيًا هناك مسألة ملاءمة الموقف الفلسفي المتطور نفسه.

الهدف من مثل هذه القراءة هو السماح لعقيدة أو موقف فلسفي بتقديم دليل على عدم كفايتها على أسسها الخاصة، ومن خلال الإشارة إلينا إلى مدى صحتها وقدرتها على تقديم حساب عن نفسها بشكل جوهري، وبالتالي تشير إلينا إلى مدى كونها صحيحة نسبيًا وغير كافية دون أن تكون خاطئة.

في تركيزه وإثباته على عدم كفاية المواقف والأطروحات الفلسفية المختلفة التي يعتبرها بلونديل في أعماله، ووساطة العمل البشري التي لا تزال غير قابلة للاختزال إلى الممارسة غير التأملية، والمتطلب الضروري للتجاوز الذي تحاول المواقف والعقائد الفلسفية طمسها، أو الاستخفاف أو القوة في النسيان يمكن أيضًا إدخال بلونديل في استمرارية مع بعض الشخصيات الماركسية الغربية وربما بشكل وثيق مع ثيودور أدورنو، وعلى الرغم من أنّ بلوندل لم يستخدم المصطلح حتى أعماله اللاحقة إلّا أنّه عازم على نقد الوعي والأيديولوجيا المتجسدة.


شارك المقالة: