نقد فلسفة بوبر

اقرأ في هذا المقال


كان مارتن بوبر الذي ولد في عام 1878 والمتوفى في عام 1965 فيلسوفًا مؤلفًا وباحثًا ومترجمًا أدبيًا وناشطًا سياسيًا غزير الإنتاج، وتراوحت كتاباته -معظمها باللغة الألمانية والعبرية– من التصوف اليهودي إلى الفلسفة الاجتماعية والدراسات التوراتية والظواهر الدينية والأنثروبولوجيا الفلسفية والتعليم والسياسة والفن، وأشهر كتاباته الفلسفية هو الكتاب القصير ولكن القوي أنا وأنت في عام 1923 حيث تعتبر علاقتنا بالآخرين ذات شقين اوضحهما في هذا العمل الرائع.

مجالات نقد فلسفة بوبر:

يميل النقد الفلسفي لبوبر إلى التركيز على ثلاثة مجالات وهي:

1- الأسئلة المعرفية المتعلقة بحالة شكل أنا-أنت للعلاقة، وحالة عالم الكائن المحدد بواسطة شكل أنا-هو للعلاقة.

2- الأسئلة التأويلية فيما يتعلق بقراءة بوبر لمصادر الحسيدية.

3- الشكوك المتعلقة ببلاغة المؤلف وأسلوبه الذي يلامس فلسفة اللغة.

وجميع خطوط النقد الثلاثة لها في جوهرها مشكلة الصراع بين الواقعية والمثالية وتأكيد العالم وإنكار العالم.

بوبر بين فلسفته والصوفية الحسيدية:

بالإضافة إلى الحجج التأويلية المتعلقة بالتاريخية ومناهضة التاريخ والأسلوب الأدبي والترخيص الشعري، تستند الحجج حول صورة الحسيدية التي ظهرت من بحث وكتابة بوبر أيضًا إلى الصورة الفلسفية للعالم كما تشكلت في عالم بوبر الفلسفي، وضد مجموعة بوبر من حسيديك (وهي تتعلق أو تشير إلى (Hasidism) وهي حركة يهودية صوفية تأسست في بولندا في القرن الثامن عشر كرد فعل على الأكاديمية الصارمة لليهودية الحاخامية).

كان عميد منحة الكابالا غيرشوم شولم من أوائل من ألقوا التحدي، حيث جادل شولم بأنّ تركيز بوبر على نوع الحكايات الشعبية حجب الأعمال النظرية داخل مجموعة الأدب الحسيدية، حيث كانت ظاهرة إنكار العالم (الغنوصية) أكثر وضوحًا مما كانت عليه في الحكايات الشعبية.

تعكس مجموعات بوبر اللاحقة من الحكايات الحسيدية على وجه الخصوص روحًا دنيوية تتعارض مع مبادئ مهمة للصوفية الحسيدية، وفي حين افترضت الحسيدية المبكرة والرومانسية الجديدة لبوبر علاقة بعيدة وحتى عدائية بعالم الزمان والمكان، فإنّ النقاد مثل شولم وكاتز وشاتز أوفنهايمر ركزوا نقدهم بشكل حصري تقريبًا على مجموعة العمل اللاحقة التي تم التعبير عنها بشكل أكثر حدة في علم الكونيات هذا، بما يتماشى مع اهتمام بوبر المتجدد بدءًا من منتصف إلى أواخر عشرينيات القرن الماضي بأشكال الوجود اليومية.

فلسفة بوبر في الأدب النقدي:

لطالما كانت طبيعة الصورة العالمية في أعظم أعمال بوبر من بين الجوانب الأكثر إثارة للجدل في فلسفة بوبر في الأدب النقدي، حيث يُعتقد أنا وأنت قد أطلق ثورة كوبرنيكية في علم اللاهوت ضد الموقف العلمي الواقعي، ولكن تم انتقادها أيضًا لتقليص العلاقات الإنسانية الأساسية إلى اثنين فقط أنا-أنت (I-Thou) وأنا-هو (I-It).

روزنزويج الذي قام بالكتابة إلى بوبر بعد نشر أنا وأنت والذي لن يكون هو آخر منتقد يتذمر: “في إعدادك أنا-هو (I-It) فإنك تمنح أنا-أنت (I-Thou) شللًا لخصم”، كما واصل توبيخه: “أنت تجعل من الخلق فوضى فقط جيد بما يكفي لتوفير مواد البناء للمبنى الجديد”، وفي الدوائر الفلسفية اليهودية قيل منذ فترة طويلة أنّ بوبر لم يكن قادرًا على درء النسبية والذاتية ومناهضة الناموس التي يقال إنّها تتغلغل في نظريات المعرفة والأنطولوجيا غير الواقعية.

بناءً على شكوى روزنزويج ضد نظرية المعرفة لبوبر دعا ستيفن كاتز إلى الواقعية التي تؤكد العالم الغني للأشياء المستقرة الممتدة في الزمان والمكان، ولا يزال منتقدوه في الفلسفة اليهودية يفترضون على نطاق واسع أنّه في نقده للقانون اليهودي وشكل أنا-هو (I-It) للعلاقة رفض بوبر عالم أشكال الأشياء تمامًا.

قام الفيلسوف التحليلي ستيفن ثيودور كاتز (Steven Theodore Katz) مؤلف مقال مهم حول خصوصية اللغة الصوفية بتوضيح مجموعة من الانتقادات الموجهة ضد كتابات بوبر، ففي الآونة الأخيرة قام كاتز بإعادة النظر في بعض هذه الانتقادات السابقة وتخفيفها، والتي تضمنت تهمة معاداة الناموس وعدم وجود تفسير للطابع الدائم لعلاقة أنا-أنت (I-Thou) وتحريف الفكر الحسيدي.

أكثر ما يظل مرفوضًا في بوبر هو الميل نحو جمالية الواقع ومشكلة خطاب بوبر الشعري الزلق في كثير من الأحيان، حيث عبّر والتر كوفمان الذي أنتج ترجمة ثانية للغة الإنجليزية لـ (أنا وأنت) عن استيائه من بوبر بشدة، وفي حين أنّه لم يعتبر عدم وجود تأثير عميق لمساهمات بوبر في الدراسات التوراتية والحسيدية والسياسة الصهيونية كمؤشر على الفشل فقد اعتبر كوفمان أنا وأنت أداءً مخزيًا في كل من الأسلوب والمحتوى.

ففي الأسلوب استند الكتاب إلى النبرة اللامعة للأنبياء الكذبة وكان أكثر تأثراً من الصدق، أما الكتابة في حالة من الحماس الذي لا يقاوم، وكان بوبر يفتقر إلى المسافة الحرجة اللازمة لنقد ومراجعة صياغاته الخاصة، وكان مفهومه لـ (أنا وهو) بمثابة إهانة مانوية، بينما كان مفهومه لـ (أنا وأنت) رومانسيًا ومفعمًا بالنشوة، وقد أخطأ بوبر في التحركات العاطفية العميقة من أجل الوحي.

الغلبة في كتابات بوبر لشخصيات بلاغية مثل التجربة والإدراك والوحي والحضور واللقاء وميله للبرامج السياسية الطوباوية مثل اللاسلطوية والاشتراكية والحل ثنائي القومية إلى الصراع الوطني المستعصي بين اليهود والعرب في فلسطين، ويتماشى مع الغموض في كتاباته الفلسفية التي غالبًا ما تجعل فكر بوبر موحيًا ولكنه بعيد المنال، وتنطبق انتقادات مماثلة على ادعاء بوبر بأنّ اللغة لديها القدرة على الكشف عن الوجود الإلهي أو كشف الكينونة.

كانت لغة جوجيندستيل المبكرة لبوبر بعيدة كل البعد عن الموضوعية الجديدة في العشرينات من القرن الماضي، في حين أشاد المؤلفون الأدبيون المائلون بالمثل مثل هيرمان هيسه بترجمة بوبر الألمانية للتقاليد الحسيدية واكتسبت ترجمته للكتاب المقدس فيما بعد ثناءً شعبيًا بين اللاهوتيين الألمان، وتحدث آخرون من بينهم فرانز كافكا وثيودور أدورنو وسيغفريد كراكور عن أسلوب بوبر باستخفاف.

في ملاحظة أكثر عن السيرة الذاتية سمح فيلسوف أنا وأنت لعدد قليل جدًا من الناس بالاتصال به باسمه الأول، ولم يتعرض مُنظِّر التعليم لأي اضطراب في جدول أعماله الصارم من خلال لعب الأطفال في منزله، كما أبعد السياسي الطوباوي معظم ممثلي المؤسسة الصهيونية، وبالكاد وجد المحاضر الأكاديمي المبتكر منصبًا دائمًا في الجامعة التي ساعد في إنشائها أي الجامعة العبرية في القدس.

كما وجد بعض الطلاب الأكثر تفانيًا لهذا الخطيب والكاتب الملهم أنفسهم منزعجين من الصراع بين أفكار معلمهم ومحاولاتهم الخاصة لوضعها موضع التنفيذ، وفي التحليل النهائي يبدو أنّ بوبر ظل دائمًا الفتى الفييني حسن المظهر والمتأثّر والموهوب بشكل مذهل والمدلل، والذي نازح في أرض الخيول والكيميائيين الذين كانت أفضل شركتهم هي أعمال خياله ومبادراته الذاتية، وللعالم الخارجي كان دائمًا ملوثًا بحماسه للكلمات والنبرة العالية لصوته المذهل.


شارك المقالة: