علم النفس الإيجابي الوجودي

اقرأ في هذا المقال


لقد وصل علم النفس الإيجابي دورة كاملة إلى جذوره الوجودية فهو جوهري وجودي؛ لأنه يهتم بمثل هذه الأسئلة الأساسية حول الوجود البشري مثل؛ ما هي الحياة الجيدة؟ ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ كيف يمكن للمرء أن يجد السعادة؟ مع ذلك لا يمكن معالجة هذه الأسئلة الوجودية بشكل كامل من خلال نهج إيجابي؛ لأن حياة الإنسان لا يمكن اختزالها في مجموعة من درجات الاختبار، إنّ علم النفس السائد يعود الآن إلى جذوره الوجودية الإنسانية لإعادة اكتشاف ثراء التجربة الحية والعديد من المسارات إلى المعنى في الحياة.

علم النفس الإيجابي الوجودي:

يدور علم النفس الوجودي حول الوجود البشري والدراما الإنسانية للبقاء والازدهار، إنه أمر إيجابي بطبيعته؛ لأنه يؤكد على الشجاعة والمسؤولية في مواجهة المخاوف الوجودية والعيش حياة أصيلة، لسوء الحظ يميل العمل الأكاديمي لعلم النفس الوجودي إلى أن يكون مغطى بعبارات محيرة وغامضة وتميل الأدبيات الوجودية الشعبية إلى التركيز على الجانب المظلم من الحالة الإنسانية.
النتيجة النهائية هي أن معظم الناس يتجاهلون الجوانب الإبداعية والإيجابية للوجودية، يمكن أن يتعلم علم النفس الوجودي من الأساليب العلمية لعلم النفس الإيجابي ووضوحها في التواصل، يوجد العديد من الأمور التي يدرسها علم النفس الإيجابي الوجودي وسنتطرّق لها في هذا المقال.

المواضيع التي يدرسها علم النفس الإيجابي الوجودي:

من أزمة الهوية إلى البحث عن الأصالة:

إنّ أزمة الهوية لا تقتصر على المراهقين فقط، يمكن أن يكون كفاح مستمر لتحديد أنفسنا وإعادة تعريفها عندما نمر بتحولات أو اضطرابات كبيرة في الحياة، إنّ البحث عن الهوية يتطلب معرفة الذات، يمكننا أن نمر بالحياة دون أن نعرف أبداً من نحن وماذا نريد حقاً في الحياة، إنّ الانزعاج من أزمة الهوية ضروري لبدء البحث عن الأصالة، مع ذلك غالباً ما تُبقي آليات الدفاع قلق الهوية بعيداً، كما أن الضغط الاجتماعي للتوافق والتثقيف يوفر هروب سهل لهذا البحث الوجودي.
إنّ نزع الصفة الإنسانية في مجتمع رأسمالي تنافسي يضيق رؤية الناس إلى المكاسب المادية، نتيجة لذلك يتم الخلط بين الناس حول هويتهم الحقيقية في مخطط الأشياء الأكبر، بالتالي فإن البحث عن الأصالة يظل مهمة صعبة ومؤلمة في ثقافة المستهلك، كانت الأصالة موضوع متكرر في الأدبيات الوجودية، يميز Heidegger بين نمط الحياة غير الأصيل والأصيل، حيث يتخلى الأشخاص غير الأصليين عن فرديتهم ومسؤوليتهم عن أمن كونهم جزء من قطيع، في المقابل يتحمل الأشخاص الحقيقيون مسؤولية العيش بطريقة تتفق مع طبيعتهم الحقيقية وقيمهم الأساسية.
لا توجد طرق مختصرة للأصالة، يمكن أن تكون نتائج الاختبارات على الشخصية والاهتمامات المهنية ونقاط القوة المميزة مفيدة، لكن لا يوجد شغف في الأرقام الباردة ولا إلهام في الصيغ، غالباً ما تبدأ عملية المصادقة بلحظة من الاستيقاظ وتعميق الاقتناع بشأن القيم الأساسية والشعور بهوية الفرد الحقيقية، إنّ اكتشاف رؤية داخلية حول تفرد الفرد وتفرده هو الذي يمنح الحياة معنى أعمق.

من أزمة السخط إلى البحث عن السعادة:

في صميم سعينا وراء السعادة نوع من السخط على الحياة كما هي، هذه أكثر من مجرد ظاهرة ثقافية، فقد يكون مرتبط بميل الإنسان نحو النمو الشخصي، يشكل التوتر بين القناعة والاستياء أزمة وجودية مألوفة، في حين أن الرضا التام يعني الرضا الأمثل عن الحياة، إلا أنه قد يشير أيضاً إلى الإنتروبيا والموت؛ لأنه لا يوجد شيء آخر نناضل من أجله، لا تؤيد الأبحاث المثل الأعلى المتمثل في تعظيم السعادة أو تحسين الرضا عن الحياة؛ لأن مثل هذا الهدف غير واقعي ويتعارض مع مصلحتنا الفضلى كبشر.
إنّ السخط سيف ذو حدين ويصرف تلقائياً عن الرضا عن الحياة، لكنه يوفر كذلك فرصة للنمو الشخصي والإصلاح الاجتماعي، إلا أنّ عدم الرضا عن المكان الذي نتواجد فيه يحفزنا على التقدم إلى حيث نريد أن نكون، أكّدت الأبحاث أن السخط جزء أساسي من الطبيعة البشرية، لكنه يميز الاستياء الصحي وغير الصحي، يمثل الجشع الشخصي والطموح الأعمى النوع المدمر من السخط، في حين أن السعي من أجل قيم أعلى وفضائل أكبر يمثل استياء صحيً.
في الوقت الحاضر جنون السعادة يكتسح المجتمعات الغربية، أصبح العديد من علماء النفس والمدربين تجار للسعادة، إنهم يقومون بتسويق وصفات السعادة الخاصة بهم على نطاق واسع مثل أي منتج تجاري آخر يشعر بالسعادة، فقد يشعر علماء النفس الوجوديون بعدم الارتياح الشديد لمثل هذا التسويق التجاري للسعادة السهلة، يتفقون مع فرانكل على أن السعي الأحادي للسعادة له تأثير معاكس لإبعادها، لكن السعادة تأتي كمنتج ثانوي عندما نسعى وراء المعنى والأصالة.
اكتشف الفلاسفة وعلماء النفس الوجوديون منذ فترة طويلة أن السعادة الحقيقية تنبع من احتضان المعاناة باعتبارها جوهر الحالة الإنسانية، كما يرون الحياة كسلسلة من المفارقات والمأزق والمشاكل، فالحياة مليئة بالسعي والانتصارات، يعد التفاعل الديناميكي بين الثنائيات أحد السمات المميزة لعلم النفس الوجودي؛ فالإيجابيات لا يمكن أن توجد بمعزل عن السلبيات وأن السعادة الحقيقية تنمو من الألم والمعاناة، كما أن المفارقة النهائية هي أن النفي يصبح تأكيد.
كثير من الناس غارقون في المعلومات وصور السعادة، مع ذلك لا يزالون يغرقون في بحر من البؤس، السبب في هذا التناقض هو أنهم فشلوا في تجنب المعاناة والتخلص من المشاعر السلبية والبحث عن طريق سريع إلى أرض ديزني من نوع السعادة، هذه السعادة السطحية قد تمنعهم في الواقع من النمو الشخصي وتجعلهم عرضة للاكتئاب.

من القلق إلى البحث عن المعنى والغرض:

نظراً لأننا نمر بهذه الحياة مرة واحدة فقط، فلدينا أسباب لنتساءل عن كيفية تحقيق أقصى استفادة منها، الخوف الأسوأ ليس الموت بل اكتشاف أننا لم نعيش حقاً عندما يحين وقت موتنا، لدينا جميعاً الرغبة في العيش بشكل كامل والقيام بشيء مهم وإحداث فرق، حتى لا نضطر إلى الخوف من إدراك فراش الموت أننا قد أهدرنا حياتنا الثمينة، لذلك نخشى حياة لا معنى لها بقدر ما نخشى رعب الموت، قد يكون اللامعنى هو القلق الوجودي الأكثر انتشاراً والذي يؤثر سلباً على كل جانب من جوانب حياتنا.
إن أحد الاهتمامات الرئيسية لعلم النفس الإيجابي الوجودي هو التركيز على البحث عن المعنى والغرض، حدد فرانكل ثلاث قيم للحياة الهادفة، اكتشف Wong سبعة مصادر رئيسية للمعنى؛ الإنجاز والقبول والعلاقة والعلاقة الحميمة والدين والسمو الذاتي والإنصاف من خلال منهجية النظريات الضمنية، وجدت الأبحاث اللاحقة عبر الثقافات أن مصادر المعنى هذه مهمة للعديد من البلدان الآسيوية أيضاً، يوضح هذا الخط البحثي أن البحث عن المعنى ليس مشروع منفرد بل يحتاج إلى دعم اجتماعي ومجتمع عادل.

من قلق العزلة إلى البحث عن المجتمع:

لقد ولدنا جميعاً في هذا العالم وحده وسنترك هذا العالم وشأنه، إن ارتباطنا بالآخرين غير دائم في أفضل الأحوال؛ لأن الناس يتغيرون ويتركوننا من خلال الانفصال أو الموت، سيؤدي النزوح والاغتراب في عالم غير شخصي وتنافسي إلى زيادة إحساسنا بالعزلة والوحدة، كما إن تفكك المؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة والمجتمع يتعارض مع الطبيعة البشرية؛ لأننا مرتبطون بالعلاقات ونحن من المفترض أن نكون حيوانات اجتماعية.
يؤكد علم النفس الإيجابي الوجودي على الحاجة إلى بناء علاقات حقيقية والانتماء إلى مجتمع داعم، حيث يمثل اللقاء الوجودي إحدى الطرق الواعدة للانفتاح بشكل أصيل وبناء الجسور عبر الهاوية التي تفصل بيننا، القيمة الصينية للتأكيد على العلاقات في جميع أنواع التفاعلات هي طريقة أخرى للتغلب على الاغتراب والوحدة.
إنّ المجتمع يعد ترياق قوي لقلق العزلة، هناك شوق عميق الجذور في الطبيعة البشرية للانتماء إلى مكان يمكن أن نسميه الوطن وهو مكان آمن وداعم، حيث يتم قبولنا كعضو مهم، فقد يكون هذا المكان عائلة أو كنيسة أو منظمة أو حي، هذا هو المكان الذي نتعلم فيه كيف نعتني ببعضنا البعض ونمنح بعضنا البعض نعمة؛ هذا هو المكان الذي نتعلم فيه كيف نعيش ونعمل معاً من خلال وضع اهتمامات المجموعة فوق الرغبات الأنانية.
مع ذلك فإن المجتمع هو نظام بيئي هش، يمكن أن يتم تعطيله بسهولة من خلال الأفعال الأنانية وغير المراعية، يتطلب الأمر التعاطف واللطف والتسامح والتضحية بالنفس لبناء مجتمع إيجابي، هناك حاجة إلى التوجه الجماعي لتحقيق التوازن بين ميولنا الفردية، يتضمن بناء المجتمع الفضائل المدنية والنشاط الاجتماعي والتكيف الجماعي، بمجرد أن نحقق مجتمعًاً حقيقياً.
ستُثري حياتنا الفردية بما يتناسب مع حيوية المجموعة وتناغمها، هنا هو التحذير الأخير، حتى عندما نكون قد أنشأنا شبكة حميمة من الدعم الاجتماعي وحصلنا على قدر كبير من الرضا عنها، فإننا نظل كائنات منعزلة، يقبل علم النفس الإيجابي الوجودي قلق الانعزال كأمر وجودي.


شارك المقالة: