مناهج دراسة علم نفس الشخصية

اقرأ في هذا المقال


تعتبر شخصية الفرد مزيج من السمات والأنماط التي تؤثر على سلوكه وفكره ودوافعه وعاطفته، كما تدفع الأفراد إلى التفكير والشعور والتصرف باستمرار بطرق محددة؛ في الجوهر هي ما تجعل كل فرد فريد بمرور الوقت وتؤثر هذه الأنماط بقوة على التوقعات الشخصية والتصورات والقيم، يدرس علم نفس الشخصية شخصية الإنسان وكيفية اختلافها بين الأفراد والسكان، تمت دراسة الشخصية لأكثر من 2000 عام بدءاً من أبقراط قبل الميلاد وتمتد من خلال النظريات الحديثة مثل المنظور الديناميكي النفسي ونظرية السمات.

الجذور الفلسفية لعلم نفس الشخصية:

نشأت كلمة شخصية من الكلمة اللاتينية (persona) والتي تعني “القناع”، بدأت الشخصية كمجال للدراسة مع أبقراط وهو طبيب في اليونان القديمة، الذي افترض أن سمات الشخصية والسلوكيات البشرية تستند إلى أربعة مزاجات منفصلة مرتبطة بأربعة سوائل من الجسم تُعرف باسم “الأخلاط”، اقترحت هذه النظرية المعروفة باسم الفكاهة أن شخصية الفرد كانت نتيجة لتوازن هذه الأخلاط (الصفراء الصفراء، الصفراء السوداء، البلغم والدم)، التي تتوافق مع أربعة تصرفات (غاضب، حزين، هادئ، مبهج على التوالي ).
في حين أنّ هذه النظرية لم تعد صحيحة، إلا أنها مهدت الطريق لمزيد من الاكتشافات والبصيرة في شخصية الإنسان، من المثير للاهتمام أن العديد من الكلمات في اللغة الإنجليزية التي تصف سمات الشخصية متجذرة في روح الدعابة؛ كلمة (bilious) تعني المزاج السيئ وهو أمر متجذر في فكر الفكاهيين بأنّ الصفراء كانت مرتبطة بالغضب، كذلك كلمة “حزين” مشتقة من الكلمات اليونانية للعصارة السوداء وهي متجذرة مرة أخرى في اعتقاد الفكاهيين أنّ العصارة السوداء مرتبطة بالاكتئاب وبالمثل، تصف كلمة “بلغم” شخصية هادئة ومتفائلة، أيضاًَ كلمة “دم” تصف شخصية مرحة.

علم نفس الشخصية الحديث:


يتأثر قدر كبير من علم نفس الشخصية الحديث بالأسئلة الفلسفية الخمسة التالية ويحاول الإجابة عنها حول ما يحدد الشخصية حقاً:

  • الحرية مقابل الحتمية: ما مقدار شخصية الفرد إن وجدت تحت سيطرته الواعية؟
  • الوراثة مقابل البيئة: هل تلعب التأثيرات الداخلية (البيولوجية) أو الخارجية (البيئية) دور أكبر في تحديد الشخصية؟
  • التفرد مقابل العالمية: هل الأفراد عموماً أكثر تشابه؛ أي متشابهين مع بعضهم البعض أم مختلفون في طبيعتهم؟
  • النشط مقابل رد الفعل: هل تتشكل العوامل البيئية بشكل سلبي من السلوك البشري أم أنّ البشر أكثر نشاط في هذا الدور؟
  • متفائل مقابل متشائم: هل البشر جزء لا يتجزأ من تغيير شخصياتهم؛على سبيل المثال هل يمكنهم التعلم والتغيير من خلال التفاعل والتدخل البشري؟

مناهج دراسة علم نفس الشخصية:

تشعب البحث في هذه الأسئلة الفلسفية الخمسة إلى عدّة مناهج مختلفة لدراسة الشخصية؛ تشمل النظريات الرئيسية الديناميكية النفسية والفرويدية الجديدة والتعلم (أو السلوكي) والإنساني والبيولوجي والسمات أو النزعة.
نشأت النظرية النفسية الديناميكية مع سيغموند فرويد، تفترض أن السلوك البشري هو نتيجة التفاعل بين مختلف مكونات العقل وهي الهوية والأنا والأنا العليا، كما أنّ الشخصية تتطور وفقاً لسلسلة من مراحل التطور النفسي الجنسي، قدم سيغموند فرويد وجهة نظر ديناميكية نفسية للشخصية البشرية والتي أوضحت أنّ الهوية والأنا والأنا العليا هي المحددات الرئيسية للاختلافات الفردية في الشخصية.
توسع المنظرون الفرويديون الجدد ، مثل إدلر وإريك إريكسون وهورني في نظريات فرويد، لكنّهم ركزوا أكثر على البيئة الاجتماعية وتأثيرات الثقافة على الشخصية، تعتبر تصرفات الأفراد بمثابة استجابات للمحفزات الخارجية، حيث تؤمن نظرية التعلم الاجتماعي أن الشخصية والسلوك يتحددان من خلال إدراك الفرد للعالم من حوله، تجادل النظرية الإنسانية بأنّ الإرادة الحرة الذاتية للفرد هي أهم محدد للسلوك؛ يعتقد علماء النفس الإنسانيون مثل أبراهام ماسلو وكارل روجرز أن الناس يسعون جاهدين ليصبحوا محققين لأنفسهم من أنفسهم.
تركز المناهج البيولوجية على دور علم الوراثة والدماغ في تشكيل الشخصيةـ فيما يتعلق بهذا تستكشف النظريات التطورية كيف يمكن أن يكون الاختلاف في تباين الشخصيات الفردية متجذراً في الانتقاء الطبيعي، حيث يعتقد منظرو السمات أنّه يمكن تصور الشخصية على أنّها مجموعة من السمات المشتركة أو طرق مميزة للتصرف يعرضها كل فرد إلى حد ما، في هذا الرأي تختلف سمات الشخصية هذه من شخص لآخر ولكن داخل الفرد مستقرة بمرور الوقت والمكان.
تقوم النظرية البيولوجية في الشخصية بالتركيز على السبب الذي ساهم في لظهور سمات الشخصية عن طريق علم الأحياء، كما تقوم بالبحث عن الرابط بين الشخصية والأحماض النووية وعمليات الدماغ، في علم النفس يشير مصطلح المزاج إلى الميول الشخصية التي نظهرها عند الولادة وتحديدها بيولوجياً، بعد الولادة تتفاعل العوامل البيئية والنضج مع مزاج الطفل لتشكيل شخصيته، يركز مجال علم الوراثة السلوكية على العلاقة بين الجينات والسلوك، تشير الأبحاث من دراسات التوائم إلى أنّ بعض جوانب شخصياتنا يتم التحكم فيها إلى حد كبير بواسطة علم الوراثة.
يركّز مجال علم الوراثة السلوكي على العلاقة بين الجينات والسلوك وقد وضّح علماء النفس العلاقة بين علم الوراثة والشخصية، يأتي جزء كبير من الأدلة التي تم جمعها لربط علم الوراثة والبيئة بالشخصية من دراسات التوائم التي تقارن مستويات التشابه في الشخصية بين التوائم المتماثلة وراثياً، في مجال علم الوراثة السلوكية أجرت دراسة مينيسوتا حول التوائم التي تمت تربيتهاوهي دراسة معروفة جيداً للأساس الجيني للشخصية بحثاً على التوائم من 1979 إلى 1999.
في دراسة 350 زوج من التوائم بما في ذلك أزواج من التوائم المتماثلة والأخوية، وجد الباحثون أنّ التوائم المتماثلة والتي نشأت معاً ومنفصلة؛ لها شخصيات متشابهة جداً سواء نشأت معاً أم منفصلين، تشير هذه النتائج إلى وراثة بعض سمات الشخصية، ممّا يعني أن بعض جوانب شخصياتنا تخضع إلى حد كبير لسيطرة الجينات، كما وجدت العديد من دراسات التوائم أن التوائم المتماثلة لديها ارتباطات أعلى في سمات الشخصية من التوائم الشقيقة.
في حين أنّ التوائم المتماثلة قد يكون لها بعض سمات الشخصية المتشابهة، إلا أنّهما لا يزالان يتمتعان بشخصيات مميزة، ممّا يشير إلى أنّ الجينات ليست العامل الوحيد في تحديد الشخصية، وجدت إحدى الدراسات التي تقيس التأثير الجيني على التوائم في خمسة بلدان مختلفة أن الارتباطات بين الصفات بين التوائم المتماثلة كانت 50٪ من الصفات المشتركة، بينما كانت لدى التوائم الأخوية حوالي 20٪ من الصفات المشتركة، تشير هذه النتائج إلى أنّ الوراثة والبيئة تتفاعل لتحديد شخصية الفرد.

تأثيرات الثقافة والجنس على الشخصية:

تعتبر كل من الثقافة والجنس من العوامل المهمة التي تؤثر على تنمية الشخصية، تتأثر الشخصية بالعوامل البيولوجية والبيئية؛ الثقافة من أهم العوامل البيئية التي تشكل الشخصية، تعتبر دراسة التأثيرات الثقافية على الشخصية أمر مهم؛ لأنّ الأفكار والنظريات الغربية لا تنطبق بالضرورة على الثقافات الأخرى، تظهر الأبحاث أنّ قوة السمات الشخصية تختلف اختلاف كبير عبر الثقافات، يميل الأشخاص الذين يعيشون في ثقافات فردية إلى تقدير الاستقلال والمنافسة والإنجاز الشخصي، بينما يميل الأشخاص من الثقافات الجماعية إلى تقدير الانسجام الاجتماعي والاحترام واحتياجات المجموعة.

الثقافة والشخصية:

بنفس الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها المعايير الثقافية على الشخصية والسلوك، تؤكد المعايير الجنسانية أيضاً على السمات المختلفة بين الأجناس المختلفة وبالتالي تؤثر على تطور الشخصية، في الولايات المتحدة يتم التأكيد على العدوان والحزم على أنّهما سمات إيجابية للذكور، بينما يتم التأكيد على الخضوع والرعاية للإناث؛ هناك ثلاثة مناهج يمكن استخدامها لدراسة الشخصية في سياق ثقافي؛ النهج المقارن الثقافي والنهج الأصلي والنهج المشترك الذي يتضمن عناصر من النهجين الأولين.
يشير مصطلح الثقافة إلى جميع المعتقدات والعادات والأفكار والسلوكيات والتقاليد الخاصة بمجتمع معين والتي تنتقل عبر الأجيال، تنتقل الثقافة إلى الناس من خلال اللغة وكذلك من خلال نمذجة السلوك وهي تحدد السمات والسلوكيات التي تعتبر مهمة أو مرغوبة أو غير مرغوب فيها، داخل الثقافة هناك معايير وتوقعات سلوكية، يمكن لهذه المعايير الثقافية أن تملي سمات الشخصية التي تعتبر مهم، اعتبر الباحث جوردون أولبورت أن الثقافة لها تأثير مهم على السمات وعرفت السمات المشتركة على أنّها تلك التي يتم التعرف عليها داخل الثقافة.
يعتبر النظر في التأثيرات الثقافية على الشخصية أمر مهم؛ لأنّ الأفكار والنظريات الغربية لا تنطبق بالضرورة على الثقافات الأخرى، هناك قدر كبير من الأدلة على أنّ قوة سمات الشخصية تختلف عبر الثقافات وهذا صحيح بشكل خاص عند مقارنة الثقافات الفردية والثقافات الجماعية، يميل الأشخاص الذين يعيشون في الثقافات الفردية إلى الاعتقاد بأنّ الاستقلالية والمنافسة والإنجاز الشخصي أمور مهمة، في المقابل الناس الذين يعيشون في ثقافات جماعية تميل إلى تقدير الانسجام الاجتماعي والاحترام واحتياجات المجموعة على الاحتياجات الفردية.

الجنس والشخصية:

بنفس الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها الأعراف الثقافية على الشخصية والسلوك، يمكن للمعايير الجنسانية أن تؤثر أيضاً على الشخصية من خلال التأكيد على السمات المختلفة بين الجنسين المختلفين، تختلف أفكار السلوك المناسب لكل جنس بين الثقافات وتميل إلى التغيير بمرور الوقت؛ حيث تمّ اعتبار الخضوع والرعاية تاريخياً كصفات أنثوية مثالية، بينما تظل العديد من أدوار الجنسين كما هي وتتغير أدوار أخرى بمرور الوقت، في عام 1938 على سبيل المثال وافق واحد فقط من كل 5 أميركيين على أنّ المرأة المتزوجة يجب أن تكسب المال في الصناعة والأعمال.
بحلول عام 1996 وافق 4 من أصل 5 أمريكيين على عمل النساء في هذه المجالات، ترافق هذا النوع من تغيير المواقف مع تحولات سلوكية تتزامن مع تغيرات في توقعات السمات وتحولات في الهوية الشخصية للرجال والنساء، يمكن لأدوار الجنسين تحديد السمات التي تعتبر إيجابية أو مرغوبة، تختلف هذه السمات من ثقافة إلى أخرى.


شارك المقالة: