علم النفس المعرفي هو دراسة كيفية معالجة الدماغ للمعلومات وبشكل أكثر تحديد، يتعلق الأمر بالعمليات الذهنية التي ينطوي عليها اكتساب المعرفة والخبرة المكتسبة من حواسنا والاستفادة منها، كذلك المشاركين في التخطيط للعمل، العمليات الرئيسية التي ينطوي عليها الإدراك هي الإدراك والتعلم وتخزين الذاكرة والاسترجاع والتفكير وكلها مصطلحات مستخدمة في الكلام اليومي وبالتالي مألوفة لدى معظم الناس.
هل علم النفس المعرفي أساسي أم مطبق؟
تخضع أنواع مختلفة من المعلومات للمعالجة المعرفية، بما في ذلك المعلومات المرئية أو السمعية أو اللمسية أو الذوقية أو حاسة الشم اعتماداً على النظام الحسي الذي يكتشفها، مع ذلك فقد طور البشر أيضاً استخدام اللغة الرمزية والتي يمكن أن تمثل أي شكل آخر من أشكال المعلومات، تمت دراسة كل هذه الجوانب المختلفة للإدراك على نطاق واسع في المختبر ولكن في السنوات الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد بتطبيق علم النفس المعرفي على المواقف في العالم الحقيقي.
يُعرف هذا النهج بعلم النفس المعرفي التطبيقي ويهتم بالتحقيق في كيفية تأثير العمليات المعرفية على سلوكنا وأدائنا في إعدادات الحياة الواقعية؛ أجريت التجارب الأولى في علم النفس المعرفي منذ أكثر من قرن، لطالما كانت العمليات المعرفية موضع اهتمام الفلاسفة ولكن لم يتم إجراء المحاولات الأولى للتحقيق في العمليات المعرفية بطريقة علمية إلا في أواخر القرن التاسع عشر.
قام علماء النفس المعرفي الأوائل باكتشافات مهمة في مجالات مثل الإدراك والصور والذاكرة والتعلم، كان هذا العمل المبكر موجه بشكل أساسي إلى اكتشاف العمليات المعرفية الأساسية والتي أدت بدورها إلى إنشاء نظريات لشرح النتائج التي تم الحصول عليها، تم تطوير تقنيات جديدة للبحث والتصميمات التجريبية الجديدة في تلك الأيام الأولى والتي كانت ذات قيمة دائمة لعلماء النفس الإدراكي في وقت لاحق.
حاول عدد قليل من الباحثين الأوائل في الواقع التحقيق في الظواهر المعرفية في أماكن العالم الحقيقي؛ على سبيل المثال اختبر فرانسيس جالتون ذاكرة الناس للأحداث التي مروا بها في الماضي، باستخدام إشارات الاسترجاع للمساعدة في تذكيرهم بالمناسبة، ربما كانت هذه أول دراسة علمية لما يُعرف الآن باسم ذاكرة السيرة الذاتية؛ هي بالفعل واحدة من أولى دراسات الإدراك من أي نوع والتي يتم إجراؤها في بيئة حقيقية.
أجرى بعض التجارب العلمية المبكرة على الذاكرة والتي كانت تهتم بشكل أساسي بالتحقيق في القوانين الأساسية ومبادئ الذاكرة، مع ذلك اكتشف (Ebbinghaus) أيضاً أن التعلم كان أكثر فاعلية عندما تكون جلسات التدريب متباعدة بدلاً من حشدها معاً، بعد ذلك أصبح التعلم المتباعد مقبول على نطاق واسع كاستراتيجية مفيدة لتحسين كفاءة التعلم والتي يمكن تطبيقها في مواقف التعلم الواقعية، مع ذلك على الرغم من بعض الأمثلة من هذا النوع حيث أدى البحث إلى تطبيقات واقعية، كان الباحثون المعرفيون الأوائل مهتمين في الغالب بالبحث البحت وأي تطبيقات عملية لنتائجهم كانت عرضية إلى حد كبير.
تطورات ما بعد الحرب في علم النفس الإدراكي التطبيقي:
قدمت الحرب العالمية الثانية حافز رئيسي لتطوير علم النفس المعرفي التطبيقي؛ أنتجت الحرب تحسينات هائلة في التكنولوجيا والتي وضعت مطالب غير مسبوقة على البشر الذين أداروها، مع تطوير معدات جديدة معقدة مثل الرادار والطائرات المقاتلة عالية السرعة، كما أصبحت الحاجة إلى فهم القدرات المعرفية والقيود المفروضة على المشغلين البشريين ضرورة ملحة جديدة، بالتالي برز الأداء المعرفي للطيارين ومشغلي الرادار ومراقبي الحركة الجوية كمجال هام للدراسة، بهدف عام يتمثل في تعظيم أداء المشغل وتحديد قيود الأداء التي سيتم دمجها في تصميم المعدات.
كان عالم النفس البريطاني نورمان ماكوورث من أوائل علماء النفس الذين عملوا على تطبيقات البحث المعرفي خلال الحرب العالمية الثانية؛ حيث حقق في قدرة مشغلي الرادار على البقاء يقظين لفترات طويلة، وجد أن هناك انخفاض ثابت في اكتشاف الإشارات بمرور الوقت؛ حيث انخفض متوسط معدلات الكشف بنسبة 10-15% بعد 30 دقيقة فقط من مشاهدة شاشة الرادار، عالم نفس بريطاني آخر في طليعة هذه الموجة الجديدة من الأبحاث التطبيقية كان دونالد برودبنت، الذي تدرب كطيار خلال الحرب وبالتالي كان لديه خبرة مباشرة في المشكلات الإدراكية التي واجهها الطيارون.
أصبح Broadbent مهتم بالتحقيق في قدرات معالجة المعلومات للبشر وبشكل أكثر تحديد قدرتهم على التعامل مع اثنين أو أكثر من المدخلات الإدراكية المتنافسة، لقد حقق في ذلك من خلال تقديم موضوعاته بمدخلات مختلفة لكل أذن عبر سماعات الرأس وهي تقنية تُعرف باسم “الاستماع الثنائي”، هكذا كان برودبنت قادر على وضع بعض القيود الأساسية للاهتمام البشري وكان قادر على تطبيق نتائجه لمساعدة أداء الطيارين ومراقبي الحركة الجوية الذين غالباً ما يتعين عليهم التعامل مع مدخلين أو أكثر في وقت واحد.
على الرغم من أن البحث المعرفي التطبيقي يُقصد به أن يكون قابل للتطبيق في العالم الحقيقي، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنه يجب إجراؤه دائماً في بيئة حقيقية، في بعض الأحيان يكون من الممكن إعادة خلق مواقف من العالم الحقيقي في المختبر، كما في حالة بحث Broadbent حول الانتباه المنقسم الموصوف أعلاه، مع ذلك في السنوات الأخيرة كان هناك جدل حول ما إذا كان ينبغي البحث في علم النفس المعرفي في الميدان؛ أي في بيئة واقعية أو في المختبر.
جادل Neisser بضرورة إجراء البحث المعرفي في ظروف العالم الحقيقي حيثما كان ذلك ممكن، من أجل ضمان ما أسماه “الصلاحية البيئية”، من خلال هذا كان Neisser يعني أن نتائج البحث يجب أن تكون صحيحة بشكل واضح في العالم الحقيقي وليس فقط في ظل ظروف المختبر، كما أشار نيسر إلى محدودية الاعتماد على مجموعة معرفية تعتمد كلياً على أبحاث أجريت في ظروف معملية اصطناعية؛ على سبيل المثال نعلم من التجارب المعملية أن الأشخاص يخضعون لعدد من الأوهام البصرية، لكن لا يمكننا أن نفترض أن هذه الأوهام نفسها ستحدث في الحياة اليومية.
لم يكن (Neisser) مهتم فقط بالبحوث المعرفية التطبيقية؛ لأنه شعر أنه حتى البحث النظري يحتاج إلى اختبار الصلاحية البيئية، للتأكد من أن نتائج البحث لم يتم إنشاؤها فقط من خلال بيئة المختبر الاصطناعية، تم قبول دعوة (Neisser) للصلاحية البيئية بحماس من قبل العديد من الباحثين المعرفيين على مدار 35 عام، مع ذلك كما لاحظ باركين وهونكين، فإن حركة الصلاحية البيئية لم تحقق “التحول النموذجي” الدراماتيكي الذي توقعه البعض، أحد أسباب ذلك هو حقيقة أن الدراسات الميدانية لا يمكن أن تتطابق مع معايير الدقة العلمية الممكنة في الدراسات المختبرية.
على سبيل المثال جادل باناجي وكراودر بأن الدراسات الميدانية للذاكرة أنتجت القليل من النتائج الموثوقة نظراً لوجود العديد من المتغيرات الخارجية، التي هي خارج سيطرة المجرب؛ في الواقع قد تكون هناك متغيرات مهمة تؤثر على السلوك في ظروف الحياة الواقعية التي لا يدركها المجرب، استنتج باناجي وكراودر أن نتائج البحث التي تم الحصول عليها في بيئة حقيقية لا يمكن تعميمها على إعدادات أخرى؛ لأنه لا يمكن افتراض أن نفس المتغيرات تنطبق.
على الرغم من أن باناجي وكراودر وجهوا هجومهم في المقام الأول إلى أبحاث الذاكرة، فإن الانتقادات الأساسية نفسها تنطبق على جوانب أخرى من الإدراك تم بحثها في هذا المجال، رداً على هذا الهجوم على البحث المعرفي التطبيقي أشار (Gruneberg) إلى أنه يمكن إجراء البحوث التطبيقية في كثير من الأحيان في ظل ظروف معملية مضبوطة، كما هو الحال على سبيل المثال في العديد من الدراسات المختبرية لشهادات شهود العيان؛ هناك طريقة أخرى ممكنة لمعالجة مشاكل المتغيرات غير المتحكم فيها في أوضاع الحياة الواقعية وهي الجمع بين كل من البحث الميداني والمختبر الموجه إلى نفس الظاهرة.
أهداف علم النفس المعرفي التطبيقي:
يمكن القول أن هناك سببين رئيسيين لدراسة علم النفس المعرفي التطبيقي؛ أولاً هناك أمل في أن تتمكن الأبحاث التطبيقية من إنتاج حلول لمشاكل حقيقية وتزويدنا بالمعرفة والرؤى التي يمكن استخدامها بالفعل في العالم الحقيقي، الميزة الثانية هي أن البحث التطبيقي يمكن أن يساعد في تحسين وإعلام المناهج النظرية للإدراك وتقديم أساس أوسع وأكثر واقعية لفهمنا للعمليات المعرفية.
في بعض الأحيان يمكن لظاهرة تُلاحظ في الحياة الواقعية أن توفر الإلهام لمبادرة بحثية جديدة؛ على سبيل المثال كان (Colin Cherry) مفتون بالطريقة التي يمكننا بها تركيز انتباهنا بطريقة ما على صوت معين أو محادثة معينة حتى عندما نكون في منتصف حفلة صاخبة، محاطين بمحادثات أخرى عالية بنفس القدر؛ أراد (Cherry) أن يعرف كيف يمكننا التركيز على مدخلات واحدة وإغلاق كل الآخرين، أطلق (Cherry) على هذه المشكلة اسم “مشكلة حفلة الكوكتيل” وواصل بحثه عن طريق التقنيات المعملية التي استخدم فيها سماعات الرأس لتقديم مدخلات منافسة لكل من الأذنين.
في بعض الحالات تم إجراء البحوث المعرفية التطبيقية والنظرية جنباً إلى جنب وكانت ذات فائدة متبادلة؛ على سبيل المثال أدى البحث المخبري حول إعادة السياق إلى وضع المقابلة المعرفية والتي تم اعتمادها لاحقاً لاستخدامها في عمل الشرطة، تحدث إعادة السياق عندما يتم إعادة إنشاء السياق والمناطق المحيطة التي وقع فيها الحدث إما عن طريق العودة إلى الإعداد الأصلي أو عن طريق محاولة تخيل الإعداد الأصلي، للمساعدة في استعادة الذاكرة لاحقاً؛ أدى تطبيق هذه التقنيات من قبل المحاورين للشرطة إلى مزيد من البحث والذي بدوره غذى علم النفس المعرفي النظري.
بالتالي كان هناك تدفق للمعلومات في كلا الاتجاهين مع البحث التطبيقي والنظري يعمل جنباً إلى جنب لتحقيق المنفعة المتبادلة لكلا النهجين، لا يمكن تعزيز فهمنا للإدراك البشري إلا من خلال مثل هذا التدفق في اتجاهين للأفكار والإلهام، حاول العلماء تضمين جميع المجالات الرئيسية للإدراك التي تم فيها تطبيق البحث في مواقف الحياة الواقعية، مع ذلك لم يقوموا بتضمين فصول عن التطبيقات السريرية لعلم النفس المعرفي؛ لأنها تمت تغطيتها بالكامل بالفعل في الكتب المدرسية السريرية والنفسية العصبية.