تتطفل الفيروسات على جميع الكائنات الحية، وكثيراً ما يلحق هذا التطفل الضرر بعوائلها، غير أنها لا تسيطر على الموقف تماما حتى نهاية المطاف. فجميع النباتات والحيوانات مهما كانت صغيرة أو بدائية، طورت سُبلاً للتعرف على هؤلاء الغزاة المجهريين ومكافحتهم.
إذن فكل جولة من جولات العدوى تتحول بالنسبة لمعظم الفيروسات إلى سباق مع الزمن، فعليها أن تتكاثر قبل أن يموت العائل أو يتعرف عليها جهازه المناعي ويقضي عليها.
يجب على نسلها أن يعثر على عوائل جديدة ليصيبها بالعدوى ويكرر العملية (إلى ما لا نهاية) حتى يظل نوع الفيروس على ظهر هذه الدنيا. وحتى الفيروسات التي تعلمت حيلة مراوغة هجمات المناعة والعيش في سعادة داخل عوائلها طيلة عمرها عليها في نهاية الأمر أن تنتقل من عائلها هذا إلى غيره حتى لا تموت معه.
ويعتمد هذا النمط الحياتي المحفوف بالمخاطر في نجاحه على كفاءة انتشار الفيروسات بين العوائل المعرضة للعدوى، إلا أنه يتعين على الفيروسات أن تترك هذه العملية بأكملها للصدفة، حيث إن جسيماتها خاملة تماماً، أضف إلى ذلك حقيقة واقعة وهي أن جميع الفقاريات وعديداً من الكائنات الأكثر بداءة بعدما تصاب بالعدوى بفيروس معين، تكتسب مناعة ضد تكرار العدوى، ولعله من المدهش أن تتمكن الفيروسات مع ذلك من البقاء في هذا الوجود.
تطفل الفيروسات:
أولاً: مجتمعات الفيروسات:
إنّ الفيروسات معمّرة لأنها تمتلك قدرة هائلة على التكيف. إن معدل تكاثرها السريع والعدد الهائل الذي تنتجه من نسلها معناه أن في استطاعتها التطور بسرعة حتى تواجه الظروف المتغيرة.
ولا شك أن العديد من أنواع الفيروسات قد انقرضت من قبل عندما سُدَّت عليها منافذ الانتشار، لكن في الوقت نفسه يعثر غيرها على مسالك جديدة تتفتح أمامها فتنتهز الفرصة كي تنتعش آمالها في الحياة.
وهكذا نجد مجتمعات الفيروسات كثيرة التبدل والتغير، فيحل أحدها محل الآخر سريعاً إذا كانت لياقة المجتمع الجديد أكثر ملاءمة للمناخ السائد. ولقد رأينا كيف حلت سلالة فيروس الحصبة الحالية، على سبيل المثال محل السلالة السالفة عليها عالمياً منذ ما يقرب من (200) عام مضت، وكيف تتغير باستمرار مجتمعات الفيروسات الملتهمة البحرية معتمدةً على الميزة التي تمتلكها وهي الاستيلاء على جينات عوائلها.
ثانياً: انتقال الفيروسات إلى جسم الإنسان:
تتنشر الفيروسات بين العوائل المختلفة من خلال أغلب المنافذ والمسالك المعروفة، فتلك التي يمكنها البقاء على قيد الحياة خارج عائلها فترة من الوقت ربما تنتقل عن طريق الهواء، مثل فيروسات الأنفلونزا، والحصبة، ونزلات البرد.
أو عن طريق تلويث الطعام والماء مثل فيروسي (نورو وروتا) اللذين يستطيعان إحداث نوبات من الإسهال والقيء، لا سيما عندما تنخفض معايير الصحة العامة.
يبدو أن تلك الفيروسات عن طريق التطور المستمر طوّرت مهاراتها حتى تتمكن من الانتشار من عائل إلى آخر حتى بلغت درجة مذهلة من التعقيد. وكمثال لذلك، فيروس نزلة البرد (الفيروسية الأنفية)، في الوقت الذي يصيب فيه البطانة الخلوية للتجاويف الأنفية، يسبب شعوراً بالوخز الخفيف في النهايات العصبية، وهي العملية التي تتسبب في العطس.
وأثناء تلك (الانفجارات) تطرد للخارج في عنف سحابات هائلة من قطيرات المخاط الحاملة للفيروس، فتظل سابحة في الهواء إلى أن تستنشقها عوائل أخرى سهلة التأثر.
وبالمثل يحول الفيروس العجلي دون امتصاص السوائل من تجويف الأمعاء عن طريق كشطه لطبقات من البطانة الخلوية للأمعاء، ويتسبب ذلك في إسهال شديد وقيء يعمل بفعالية على طرد ذرية الفيروس لتعود من جديد إلى البيئة كي تصل إلى عوائل جديدة.
هناك طائفة أخرى من الفيروسات الناجحة بامتياز تمتطي ظهور الحشرات كي تنتقل عن طريقها من عائل إلى آخر. فالفيروسات التي تصيب النبات قد تنتشر عن طريق حشرات المنّ التي تمتص العصارة النباتية، وبنفس الطريقة تمتص الحشرات اللادغة الفيروسات من عائل لتحقنها في آخر أثناء تناولها لوجبة من الدماء.
ومن بين الأمثلة على ذلك فيروس حمى الضنك وفيروس الحمى الصفراء، فكلاهما يتنقل بين العوائل عن طريق إناث البعوض التي تكون في حاجة لوجبة من الدم كي تغذي بيضها. وتتسبب تلك الفيروسات في أوبئة واسعة الانتشار في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية حيث تعيش أنواع معينة من البعوض العائل لها.
لا يمكن للفيروسات أن تصيب بالعدوى الطبقات الخارجية الميتة من جلودنا، أو أن تخترق الطبقات العديدة للجلد السليم، غير أن وجود خدش مجهري الحجم كاف للسماح بدخول فيروسات الثآليل (الورم الحليمي) وبثرة البرد (الهربس البسيط)، وكلاهما نوعان واسع الانتشار من العدوى التي تُلتقط التقاطاً مباشراً من العائل المصاب.
ولكن الفيروسات شديدة الهشاشة التي لا يمكنها العيش طويلاً خارج جسم عائلها قد تنتقل مباشرة من عائل إلى آخر عن طريق التلامس اللصيق مثل التقبيل. وهذه الطريقة تعد فعالة للغاية لنقل الفيروسات الموجودة باللعاب، مثل فيروس (إبشتاين-بار) الذي يسبب الحمى الغددية، والمعروفة كذلك باسم (مرض التقبيل).
وبعض الفيروسات مثل فيروس نقص المناعة البشري والالتهاب الكبدي (B) تستعين بالمسالك التناسلية في الانتقال من عائل إلى آخر، وبخاصة عندما توفر لها ميكروبات أخرى تنتقل عن طريق الجنس مثل (المكورات البنية) و(اللولبية الشاحبة)، الميكروب المسبب للزهري طريقا ميسوراً للدخول بإحداثها لتقرحات سطحية.
كذلك تستغل تلك الفيروسات طرق التدخل المعاصرة مثل الأدوات الجراحية، وآلات الحفر التي يستخدمها أطباء الأسنان، وعمليات نقل الدم، وعمليات زراعة الأعضاء في القفز من عائل إلى آخر.
وفي حقيقة الأمر، يبلغ فيروس الالتهاب الكبدي (B) درجة من الشراسة في إصابة الضحية بالعدوى حتى إن كمية من الدماء لا ترى إلا بالمجهر تكون كافية لنقل العدوى، مما يجعل منه خطراً مهنياً جسيماً يتهدد العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يتصلون بحاملي عدوى هذا الفيروس.