أهمية الإطار المؤسسي لتحقيق الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا

اقرأ في هذا المقال


أهمية الإطار المؤسسي لتحقيق الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا:

لا يمكن أن يحقق الفيلم الإثنوجرافي في البحوث الأنثروبولوجية وجوداً حقيقياً، ولا نقول أن النهضة قد تكون حقيقية في غياب الإطار المؤسسي لعمليات إنتاجه واستهلاكه (أي التوزيع). ويدلنا استعراض المادة الثرية التي تقدمها التجارب العديدة والغنية للسينما الإثنوجرافية في العالم، كيفية تأسيس هيئات ومؤسسات وجمعيات علمية، ووحدات متخصصة داخل متاحف أو أقسام أكاديمية للاهتمام بإنتاج الأفلام الأنثروبولوجية.

وليس بحاجة إلى الخوض فيما واجهته بعض تلك الهيئات من تحديات وصعاب، وما عوق بعضها من مشكلات، فذلك كله مُبسط على نحو جيد في ثنايا كتب السينما الإثوجرافية الأنثروبولوجية. والإطار المؤسسي هو الذي يهئ المعدات اللازمة للتدريب، وينتقي العناصر البشرية الراغبة في هذا الطريق، وهو الذي يضع الخطط لتمويل وإدارة عمليات الإنتاج، ثم برامج النشر (التوزيع) سواء للجمهور المتخصص داخل الأقسام الجامعية المتخصصة، والمتاحف المهتمة بهذا اللون العلمي، أو للجمهور العام سواء في عروض خاصة، أو في عروض عامة عبر شبكات التليفزيون.

دور الإطار المؤسسي للتعريف بالفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا:

إن لدى العالم تراث عظيم من الأفلام التسجيلية الأنثروبولوجية، وهي وإن كانت لا تطابق حرفياً ما يقصد بالفيلم الإثنوجرافي، إلا أن فن الفيلم التسجيلي، يمكن أن يكون هو الأب الشرعي للفيلم الإثنوجرافي بمفهومه العصري. إذ أن المتأمل للازدهار المتنامي للوسائل السمعية والبصرية يلمس أن للمؤسسات دور كبير في التعريف بهذا التخصص، وتوفير سبل الحياة والتطور أمامه، خاصة في شتى بلاد العالم التي سبقتنا على طريق التقدم العلمي والتقني.

وهذا أمر طبيعي؛ لأن إنتاج أعمال راقية باستخدام هذه الوسائل كالأفلام الإثنوجرافية يتطلب ميزانيات كبيرة وجهوداً مضنية، وقاعدة عريضة من الكوادر الفنية المتخصصة، وأخيراً وليس آخراً أقساماً جامعية في تخصص الأنثروبولوجيا، باعتبار أنها هي التي ستغذي الجانب الفني التخصصي، ولا نقول بالضرورة العلمي، اللازم لإنتاج مثل هذه الأفلام. ويزيد الأمر صعوبة أن نشير إلى أن هذا النشاط الإنتاجي والتوزيعي الباهظ التكاليف إنما هو من صميم الخدمات التعليمية، من ناحية أو الخدمات الثقافية، من ناحية أخرى التي تتسم في الأساس بأنها لا تهدف إلى الربح.

دور الإطار المؤسسي في تطوير الفيلم الأنثروبولوجي وترسيخ قيمته:

لا يقتصر دور الإطر المؤسسي على إنشاء وحدات لإنتاج، وحفظ، وتوزيع الأفلام الإثنوجرافية، ولكن أيضاً تطور هذا التخصص حيث يمكن أن ترسخ قيمته وتتدعم مكانته بين التخصصات، إلى الحد الذي أصبحنا نجد كثيراً من الجامعات مثل جامعة جنوب كاليفورنيا في الولايات المتحدة تمنح درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا المرئية. وهذا التأسيس الأكاديمي كفيل بأن يضمن لأي تخصص عمراً متصلاً، وإمكانيات لا حدود لها للتطور والنمو، وقاعدة صلبة للحوار والتعاون مع التخصصات الأخرى.

دور المتاحف في تطوير الفيلم الإثنوجرافي الأنثروبولوجي:

غير الوحدات المتخصصة للإنتاج، والأقسام العلمية للبحث والتدريب، لعبت المتاحف المتخصصة دوراً بارزاً في بعض المجتمعات المتقدمة في تطوير الفيلم الإثنوجرافي الأنثروبولوجي، وتقديمه إلى جمهور عريض من الجمهور المهتم وغير المتخصص، وبذلك تسهم في تعريف حلقات أوسع وأوسع، وتعمل على رفع مستوى تذوق هذه النوعية من الأفلام. ومن أشهر تلك التجارب وحدة الفيلم الإثنوجرافي التي أنشأها الفنان والباحث الأشهر جون روش في متحف الإنسان بباريس.

وتسمح هذه الوحدة لرواد المتحف بالاطلاع على ما لديها من أفلام تدعمها وتزيد عليها باستمرار، كما تنظم عروضاً أسبوعية لعرض بعض منها بانتظام. وفوق هذا كله تنظم تلك الوحدة النشطة مهرجاناً سنوياً لهذا النوع من الأفلام يسمى حصاد الفيلم الأنثروبولوجي.

دور الأطر المؤسسية في ظهور دوريات متخصصة للعناية بالفيلم الإثنوجرافي الأنثروبولوجي:

من الطبيعي بعد أن تتوفر مثل هذه الأطر المؤسسية المستقرة، أن تنبثق دوريات متخصصة للعناية بشؤون هذا الفن العلمي الجديد، أو تُخصص له أبواب ثابتة في كبرى الدوريات العلمية المستقرة والعريقة، سواء كانت دوريات أنثروبولوجية أو دوريات سينمائية. ومثل هذا المنبر هو الأداة الحقيقية للنقد والتقويم وتصحيح المسار، ومنح شهادات الجدارة لمن يستحق، وتوسيع قاعدة المهتمين.

وإلى جانب كل ذلك توجد عناصر مؤسسية لا غنى عنها، لكي يستطيع أي تخصص أو اتجاه أن يوفر لنفسه أسباب الحياة، وللمشتغلين به أداة للتواصـل والحماية، ويُعنى بذلك الجمعيات العلمية المتخصصة. وتدلنا تجربة الجمعية الفرنسية للأنثروبولوجيا المرئية، التي تأسست عام ١٩٨٨، على أن مثل هذا الكيان يمكن أن يصلح كأداة تنظيمية شديدة الفاعلية في خدمة التخصص.

فقد جعلت من أولى أهدافها إقامة مكتبة سينمائية للأفلام الإثنوجرافية في الأنثروبولوجيا. ومثل هذه المكتبات من تخدم الفيلم بطرق شتى، فهي تحفظ نسخة أو نسخاً أصلية، ونسخاً للاطلاع، وتنظم حلقات أو أوقاتاً للمشاهدة، وتقوم بإعارة الأفلام للأقسام الجامعية، المدارس، والمتاحف وشتى المؤسسات لخدمة كافة الأغراض، التي تعمل جميعها في نهاية الأمر على تحقيق الرواج والازدهار للفيلم الإثنوجرافي الأنثروبولوجي.

اهتمام علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا بالفيلم الإثنوجرافي:

من معالم الاهتمام البارز بهذا الميدان على صعيد المشتغلين بعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا، ما قدمه علماء الأنثروبولوجيا من بحث عن الأنثروبولوجيا البصرية لمؤتمر الأدوار المستقبلية لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، الذي عقد في عام ١٩٩٨. ورغم ما لاقاه موضوع الأنثروبولوجيا البصرية أو المرئية من استحسان وترحيب وتأكيد لأهميته من جانب جمهور المتخصصين، إلا أنه أثار أيضاً نقاشاً واسعاً وجدلاً نشيطاً تصدى لما يثيره هذا الميدان الجديد من إشكاليات، وما يطرحه على البحث الأنثروبولوجي والكتابة الأنثروبولوجية من تحديات.

وكان من أصداء تلك المناقشة إثارة ترحيب وحماس شديدين، للإسهام في ترجمة كتاب “السينما الإثنوجرافية”. وفي اعتقاد علماء الأنثروبولوجيا إن هذا العمل العلمي الرصين، الذي شارك في تحريره السينمائيون جنباً إلى جنب مع الأنثروبولوجيين، قد اجتهد في تقديم إجابات على معظم التساؤلات والاعتراضات أو التحفظات التي أثيرت حول مفهوم الأنثروبولوجيا المرئية، ودورها وإمكانياتها العلمية والفنية.

ولعل بلورة بعض هذه الإشكاليات والتحديات، وخلق تعريف كافٍ بها بين دوائر المتخصصين، وتأسيس اتفاق حول أساليب التعامل معها، وتكييفها مع ظروف الواقع الأنثروبولوجي والسينمائي التسجيلي خاصة، كل ذلك كفيل في تصور دعم لهذا التخصص الناشئ في المجتمع. ويجب أن يبذل الجهد في تطويره ودفعه إلى الأمام، والإفادة منه بالشكل الملائم في تعليم تخصصات الدراسة الأنثروبولوجية، ومعرفة المجتمعات والثقافات الأخرى معرفة قريبة وعميقة.

هل يفضل صناع الفيلم الأنثروبولوجي التحيز للماضي وللغرائب؟

هذه نقطة تمثل حساسية خاصة لأبناء المجتمعات المتخلفة أو النامية. وفي مثل هذه المجتمعات أيضاً كثير من المواقع التي ما زالت تعيش عصوراً انقضى أجلُها منذ قرون، ولنفكر مثلاً في واحات نائية، أو مناطق أحراش منعزلة، أو مجتمعات فوق قمم جبال وعرة. في مثل هذه المواقع يعيش بشر لا يعرف مواطنوهم عنهم الكثير، وأحياناً لا يعرفون عنهم شيئاً. ويسيئهم أشد الإساءة أن تسعى كاميرات الغرباء إلى زيارتهم، وتسجيل حياتهم، وعرضها على الناس. ليس أي ناس، وإنما أشخاص من الخارج، أشخاص من الدول المتقدمة بالتحديد.

وعلى الجانب الأنثروبولوجي خاصة في العالم القادم من مجتمع متقدم إلى مجتمع نامي، تكون كاميرات هؤلاء الناس مفتونة أحياناً باقتناص اللحظات الفريدة، أو غير المألوفة والغريبة، والتركيز على أصحابها، ورصد خصوصية تلك المواقف من الناحية الإنسانية. وهذا ما نبه إليه أصحاب كتاب السينما الإثنوجرافية، وحذروا صنّاع الفيلم الأنثروبولوجي من التمادي فيه. فكثير منهم تشده أنماط الحياة في الجزر المنعزلة، أو الصحراوات الموحشة، أو المنحدرات الصخرية الشديدة الوعورة، باختصار في الجيوب المنسية من العالم الواسع.

ومن المؤكد أن الأنثروبولوجي عندما يفعل ذلك، لا يفعله للتآمر على ذلك المجتمع، أو فضحه والتشهير به، وإنما لأنه تستحوذ عليه بادئ ذي بدء فكرة أن موضوعات بحثه في مثل هذه المجتمعات هي في طريقها إلى الزوال. وهو بتسجيلها والحفاظ عليها يساهم في صون شيء من التراث الثقافي الإنساني المهدد.


شارك المقالة: