إشكاليات وتحديات الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا

اقرأ في هذا المقال


سنتحدث في هذا المقال عن إشكاليات وتحديات الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا وهي: إشكالية الوصف المحايد وإشكالية الوصف بدون نظرية وأفلام الأنثروبولوجيين وتواضع المستوى الفني وهل يفضل صناع الفيلم الأنثروبولوجي التحيز للماضي وللغرائب؟

إشكالية الوصف المحايد في الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا:

منذ اللحظة الأولى للتصوير، يتم العمل في الفيلم انطلاقاً من تصور محدد للواقع تحديداً دقيقاً. ولا يستطيع المخرج أن يمنع نفسه من أن يكون لنفسه فكرة مسبقة عن موضوعه. وعندما لا يعرف تمام المعرفة ما الذي سيصوره، ولا كيف يتم التصوير، فإن الوصف لن يكون جيداً؛ وذلك لأن الصور في هذه الحالة تفتقد القدرة على التعبير الواضح. والسبب أن الكاميرا لا تصور وحدها صوراً جيدة معبرة. إنما الواقف خلفها هو الذي يستنطقها التعبير.

لذلك نبدأ بإشكالية الوصف. ففي نظر البعض أن الفيلم الإثنوجرافي يتميز على عكس الأنواع السينمائية الأخرى بالملاحظة المحايدة الخالية من كل معادلة شخصية، أو انحيازات مبدئية من أي نوع. ومن هذه الزاوية، فإن الوسائل السمعية والبصرية لا تستخدم إلا لعرض الأفكار المعطاة أو الموجودة فعلاً، وتكوين أدوات أساسية تستخدم بعد ذلك في الاستدلال أو تشييد الرؤى والأطروحات النظرية، وبلورة الفروض البحثية. وهي بذلك تتعدى الهدف الوصفي الذي يعني تكدس الوثائق السمعية والبصرية الخاصة بوقائع تبدو متعلقة بحالات خاصة متفردة.

هنا تطرح نفسها إشكالية ذات طبيعة أنثروبولوجية في حقيقتها، تتعلق بعمليات التحليل والتفسير، ودور كل منها وحدوده، ومدى اندماج عمليات التحليل والتفسير أو انفصالها عن الوصف الذي تم تسجيله وتثبيته على شريط الفيلم.

ففي الفيلم الإثنوجرافي تبرز أمامنا ازدواجية الواقع المعاش وصورة الواقع المسجلة على الفيلم، والصورة ليست في الحقيقة سوى اختيار أي رؤية معينة لذلك الواقع الحي الخصب الفائق التعقيد. من هنا فإننا ما أن تطرح في عالم الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا مسألة الواقع الاجتماعي حتى نجد أنفسنا نتجاوز ما يسمى الوصف الخالص.

في مجال الأنثروبولوجيا التي هي تصور مصنوع بمعنى ما أو تصور انتقائي لهذا الواقع، أو قل هو إعادة تصوير له، فإن الفيلم الأنثروبولوجي الجيد يقترح لنا رؤية معينة، ويقدم نفسه كشيء يمكننا أن نتعمق التفكير فيه، ونذهب في تأويله مذاهب شتى.

وحتى لو افترضنا جدلاً أن رؤية الفيلم تماثل نوعاً من الإدراك المباشر، فإنه يلزم أولاً وقبل كل شيء إنتاج الفيلم نفسه. ويعني ذلك اتخاذ قرارات بين مجموعة من الخيارات المطروحة أمام فريق العمل. وأخيراً فإن هذا التراكم السلبي للمعلومات الوثائق أو المعلومات الوثيقة سواء بهدف الحفظ أو حتى بهدف التأمل النظري لايحدد وحده أي إشكالية ولا ينشط التفكير النظري إلا بصورة اقتراضية. ومن الشائع اليوم القول بأن من ملامح الزمن المعاصر أننا أصبحنا نتحدث عن بنوك الصور أكثر مما نتحدث عن السينماتيك أو مكتبات الأفلام .

إشكالية الوصف بدون نظرية في الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا:

إن استخدام كلمة إثنولوجيا للإشارة إلى جمع البيانات من الميدان أي من مكانها الطبيعي، انطلاقاً من أن هناك عملاً وصفياً خالصاً مهمته في نهاية الأمر يغذي التفكير النظري فيما بعد، هذا التصور ينطوي في الحقيقة على قدر ليس يسيراً من الخداع أو قصور الفهم. فالمؤكد أنه لا يمكن أن يوجد وصف بدون اختيار. وهذا الاختيار إنما يتحدد في ضوء النظرية التي يتبناها صانع الفيلم. وهذا المبدأ أشد ما يكون أهمية وخطورة في عالم السينما الإثنوجرافية، حيث يسهم الواقع في تكوين المعطيات المتحصلة.

فالأنثروبولوجي الذي ينتج الوسائل السمعية والبصرية لا يمكنه أن يدعي أنه يكتفي بتخزين مادة خام وفقا للفهم الكلي للملاحظة. كما يجب أن ندرك في نفس الوقت أنه من المستحيل إعادة تكوين وقائع إمبيريقية غير قابلة للنقاش عن طريق التسجيل. ذلك أنها لكي تصبح صوراً يتعين أولاً أن يتم إدراكها، والتعامل معها، وتشكيلها، وتعريف الناس بها. ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق استخدام إحدى النظريات، وتبنيها كإطار للعمل، حتى ولو كان ذلك دون وعي أو دون قصد من جانب صانع الفيلم.

أفلام الأنثروبولوجيين وتواضع المستوى الفني:

تدلنا المتابعة الدقيقة للنشاط التعليمي والبحثي في أغلب أقسام الأنثروبولوجيا ومعاهدها في جامعات العالم الكبرى أنه قد طرأ نمو مذهل على استخدام الوسائل السمعية والبصرية من كل نوع، وعلى كل مستوى. بدءً من شرائط التسجيل “الكاسيت”، مروراً بالفيديو، ووصولاً إلى الشريط السينمائي، وانتهاء باستخدام الوسائط المتعددة.

ولكن الملاحظة التي تم رصدها هي تواضع للمستوى الفني للغالبية من الأفلام التي أخرجها الأنثروبولوجيين، وهم دارسو الأنثروبولوجيا أو الباحثين فيها الذين يستخدمون الكاميرات بأنفسهم. فالأنثروبولوجي هنا يمارس الأدوار الرئيسية في صناعة الفيلم، بدءً من التأليف، مروراً بكتابة السيناريو، ثم التصوير والإخراج.

ولعل ما يفسر انخفاض مستوى الجودة أن تلك الأفلام قد نفذت في ظروف صعبة، وبمعرفة سينمائيين قاموا بتعليم أنفسهم صناعة السينما. فهم قد لايستخدمون المعدة الفنية (من جهاز صوت أو كاميرا) إلا مرة واحدة في السنة أو نحو ذلك. لذلك نجدهم لا يستطيعون السيطرة على ما يستخدمون من معدات، ولا امتلاك الحد الأدنى من الشروط والمتطلبات الفنية الضرورية.

وفي مقدمة تلك الشروط والمتطلبات مستوى معقول من التدريب والمران الشخصي، وعنصر الوقت أو الخبرة الزمنية، وتوفر المعدات المناسبة، والموارد المالية الكافية. فبدون الحد الأدنى من تلك المتطلبات لن يمكن إنتاج فيلم جدير بأن يسمى فيلماً.

ولذا نجد تصوير المشاهد مفتقراً إلى التوفيق، مليئاً بأخطاء الضبط، والكادرات سيئة، أو غير ثابتة، لا تقدم تصميماً حقيقياً للمشاهد السينمائية المعبرة ولا تنويعاً يسمح بمونتاج متماسك. ومع أن المادة الخام متوافرة، إلا أنها تتكرر وتعاني من الثغرات بسبب عدم احترام قواعد الاستمرارية السردية. ويبدو تسجيل الصوت في أغلب الأحيان سيئاً غاية السوء نتيجة لنوعية الميكروفونات الرديئة، وآلات تسجيل الصوت، والجهل بالعلاقة الصحيحة بين الصوت والصورة.

ونلاحظ أخيراً أن ثقل أسلوب التعليق واستخدام مصطلحات خاصة، والنطق غير السليم والتعالي على الوضوح، كل ذلك يدمر أي تأثير للعمل، بل يقضي بالفعل على دوره فى التعليم والتوثيق. أما بالنسبة للمضمون الخاص بالتعليق فنجده على العموم يتسم بدرجة عالية من الكثافة وتبني رسالة ذات طبيعة موسوعية. ونادراً ما نلمس أي حرص على طرح التساؤلات، رغم كون تلك الجوانب تقع في مكانة القلب من المشروع الأنثروبولوجي.

لا جدال أن هذه الملاحظات وغيرها مما سجله نقاد أفلام الأنثروبولوجيين قد تبدو بالغة القسوة، ولكنه من الواجب على أية حال إبرازها ولفت النظر إليها وأخذها فى الاعتبار. فمن شأن ذلك أن يمهد لتحقيق النجاح وإحراز التقدم في مجال لا يسمح في جميع الأحوال ببلوغ النجاح إلا بصعوبة. وبرغم كل شيء، فإن هذا الموقف العام غير المرضي لا يمنع من الاعتراف سواء من ناحية الأنثروبولوجيين أو المتخصصين في الفيلم الوثائقي بوجود أعمال رائعة بحق والاتفاق على أن هناك عدداً من الأفلام ذات القيمة الرفيعة علمياً وفنياً.


شارك المقالة: