الأوضاع الخارجية لدولة الخلافة العباسية الثانية

اقرأ في هذا المقال


العلاقة مع الطالبيين:

استغل البيزنطيون سوء الحالة السياسية في دولة الخلافة العباسية في العصر العباسي الثاني للإغارة على الولايات الإسلامية. وارتبط القتال بين المسلمين والبيزنطيين منذ عهد المتوكل، بالصراع الداخلي بين السلطات البيزنطية والبيالصة بسبب النزاع حول عبادة الصور المقدسة.

ونظراً لما تعرض له البيالصة من اضطهاد على يد السلطات البيزنطية الموالية لعبادة الصور المقدسة؛ لجأوا إلى حماية أمير ملطية عمر بن عبدالله الأقطع، واستقروا في ثلاث مُدن رئيسية على حدود أرمينيا في منطقة سيواس الجبلية، واتخذوا من مدينة تفريق عاصمة لهم حيث أقام بها زعيمهم قربياص. وتعاونوا مع المسلمين في قتال البيزنطيين.

وتولى القائدان الإسلاميان عمر بن عبدالله الأقطع أمير ملطية وعلي بن يحيى أمير طرسوس، عبء القتال، في هذه المرحلة. وقد أدَّى التعاون بين الجانبين، إلى الحد من اندفاع البيزنطبين باتجاه الأراضي الإسلامية. في حين برز في الجانب البيزنطي الأمبراطور ميخائيل الثالث والقائدان بارداس وبتروناس كأعداء أقوياء أخذوا على عاتقهم مهاجمة المسلمين.

ففي عام (214 هجري)/(855 ميلادي)، أغار البيزنطييون على عين زربة وأسروا من كان
فيها. وتبودل، في هذه السنة، الأسرى بين الجانبين. وفي عام (242 هجري)/(856 ميلادي)، أغار البيزنطيون على الأراضي الواقعة شمالي العراق. فهاجموا سميساط وآمد وتفريق، وأسروا عشرة آلاف من المسلمين ثم عادوا إلى داخل الأراضي البيزنطية. فطاردتهم قوى التحالف. ولم ينجُ الإمبراطور ميخائيل الثالث إلا بصعوبة بالغة.

وتعتبر هذه الغارة النشطة بداية لفترة من الاصطدامات المستمرة بين الجانبين. فهاجم أميرا ملطية وطرسوس الأراضي البيزنطية كرد على غارة البيزنطيين على شمالي العراق. كما أرسل الخليفة المتوكل في عام (244 هجري)/(858 ميلادي)، جيشاً دخل الأراضي البيزنطية ونجح في فتح عدة حصون أهمها سمالو.

وظلت الأوضاع على الحدود قلقة، وتبادل الطرفان الكر والفر وأنزل المسلمون بقيادة عمر بن عبد الله الأقطع هزيمة قاسية بالأمبراطور البيزنطي في عام (247 هجري)/(861 ميلادي)، في توقات، توغلوا على أثرها في عمق الأراضي البيزنطية، فخربوا ثغر الأرمنياك وفتحوا سامسون، أكبر موانىء قبادوقيا على البحر الأسود.

نتيجة لهذا التوغل في آسيا الصغرى، الذي يُعتبر بداية مؤشر لخطر داهم على الأمبراطورية قام الأمبراطور بالرد. فأعد جيشاً ضخماً بلغ خمسين ألف مقاتل بقيادة بتروناس للتصدي للمسلمين. ونظراً للفارق العددي بين القوتين، تلقى عمر بن عبدالله نصيحة من أركان حربه بالانسحاب من المنطقة، وعدم الاشتباك مع العدو الذي يفوقهم عدداً. لكن الأمير المسلم رفض هذه النصيحة وآثر الاصطدام بالجيش البيزنطي.

والتقى الجيشان في بوزون، بين بحيرة تاتا ونهر هاليس، فحاصر بتروناس الجيش الإسلامي وطوقه من جميع الجهات، وفّق خطة عسكرية مُحكمة، وحاول عمر أن يشق له طريقاً وسط الحشود البيزنطية، ويكسر الطوق العسكري، إلا إنه لم يتمكن من ذلك، وسقط على أرض المعركة بعد قتال بطولي.

ولقي علي بن يحيى أمير طرسوس مصرعه في العام التالي، في وقعة ميافارقين في أعلى الفرات. وكان قد خرج لينتقم لمقتل عمر بن عبد الله. كان لمقتل هذين القائدين أثر كبير في إذكاء روح الجهاد في قلوب المسلمين. فقامت العامة فى بغداد وسامراء بانتفاضات شعبية، وتعالت الصيحات في المساجد والطرقات معلنة الجهاد والنفير.

وبالرغم من انتصار البيزنطيين إلا أن مناطق الحدود لم تتعرض لتغيير كبير. فقد أضاف المسلمون إلى أملاكهم حصوناً عديدة، ورسخرا أقدامهم في قبادوقيا شري نهر هاليس ثم تلا ذلك انحسار المد الإسلامي بسبب تفكك دولة الخلافة العباسية على أثر تسلُّط الأتراك على مُقدّراتها، وقيام الدول الانفصالية. وبالتالي فقدت تأثيرها في ربط المسلمين سياسياً تحت سلطة مركزية واحدة. ومن جهتها، استهلت الدولة البيزنطية عصراً جديداً من القوة والتوسع في عهد الأسرة المقدونية التي حكمت بين أعوام (253 – 448 هجري)/(867 – 1056 ميلادي).

استغل الإمبراطور باسيل الأول الوضع المتدهور لدولة الخلافة العباسية، واستهل نشاطه العسكري فاحتل قلعة لؤلؤة الواقعة غربي جبال طوروس، ثم احتل الممرات الجبلية، وعمل على القضاء على البيالصة. فاصطدم بهم في عام (258 هجري)/(872 ميلادي)، بين سيواس وملطية، وأحرز انتصاراً حاسم عليهم، ودمر معقلهم تفريق وقتل زعيمهم خريسو خيروس.

ترتب على هذا الانتصار أنه واصل البيزنطيون زحفهم باتجاه الشرق. واندفع باسيل في العام التالي باتجاه إقليم الفرات واحتل سميساط وزبطرة لكنه تعرض لهزيمة قاسية عند ملطية وعلى الرغم من أنه اكتفى بهذا الانتصار الجزئي، إلا إنهُ تمكن من السيطرة على مساحات شاسعة تشمل لؤلؤة، وجميع ما يقع بين قيصرية في الشمال الغربي، إلى مرعش في الجنوب الشرقي.

ويعتبر عمله هذا بداية مرحلة جديدة من مراحل الزحف والتقدم المنظم التي قامت بها الإمبراطورية البيزنطية على الأطراف الشرقية. وقد حمل أحمد بن طولون الذي تولى إدارة الثغور الشامية، عبء الدفاع عن المناطق الإسلامية وشكَّل في إحدى مراحل الصراع خطراً على البيزنطيين الذين هادنوه في عام (265 هجري)/(878 ميلادي)، إلا أن المناوشات بين الطرفين، استمرت على شكل غارات متبادلة، وما حدث من نشوب الخلافات داخل البلاط البيزنطى بسبب مشكلة زيجات الإمبراطور ليو السادس، جعل الصراع مع المسلمين شاقاً.

ففي الأربع عشرة سنة الأولى من حكم ليو السادس، تعرّض البيزنطيون لهزائم عديدة عند أبواب كيليكيا وفي غربها، مما أتاح للمسلمين أن يزحفوا على امتداد الساحل وأن يتوغلوا في جوف آسيا الصغرى، ولم يتمكن القائد نقفور فوكاس الذي استدعاه الإمبراطور على عجل،
من وقف الغارات الإسلامية بالرغم من انتصاره في أدنه في عام (287 هجري)/(900 ميلادي).

واستمر كل طرف في استغلال الفرص المتاحة له للإغارة على أملاك الطرف الآخر. وقد أتاح انهماك الخلافة بقتال ازج والقرامطة الفرصة للبيزنطيين، فأغاروا على مناطق الحدود في عام (291 هجري)/(904 ميلادي)، وعاثوا فساداً في مدن الثغور الشامية، فتصدى لهم المسلمون وفتحوا انطاكية وبلغوا قونية في عام (294 هجري)/(907 ميلادي)، وخربوها. فاضطر الأمبراطور إلى طلب الصلح، وتبادل الأسرى مع المسلمين.

وفي عام (303 هجري)/(915 ميلادي)، اتخذ البيزنطيون من ثورة الحسين بن حمدان على
بني بويه، فرصة للإغارة على الثغور الجزرية. فهاجموا حصن منصور وسبوا من كان فيه، وأوقعوا بالمسلمين في طرسوس، وعاثوا فساداً في مرعش. رد المسلمون في العام التالي، فهاجموا ملطية بقيادة مؤنس الخادم، وفتحوا عدة حصون واضطر البيزنطيون إلى طلب الهدنة في عام (305 هجري)/(917 ميلادي).

ووقف البيزنطيون على ضعف الخلافة فى عهد المقتدر الذي عجز عن إمداد الثغور بالرجال والعتاد، فتجرأ الإمبراطور قسطنطين السابع، وطلب من أهل الثغور أداء الخراج إليه، وهدَّدهم إذا امتنعوا عن ذلك. وقد ترتب على هذه الحالة أن دخل البيزنطيون ملطية في عام (314‏ هجري)/(926 ميلادي)، بعد أن فر أهلها إلى بغداد مستغيثين بالخلافة.

الازدهار في العهد البيزنطي:

لم تكن دولة الخلافة العباسية في عهد إمرة الأمراء (324 – 334 هجري)/(936 – 946 ميلادي)، بأفضل حالاً. وكانت بيزنطية قد تخلصت من الخطر البلغاري، فشرعت في تنفيذ خُطة هجومية في الشرق. وقد تولى عملية التنفيذ القائد الشهير يوحنا كوركواس. وتركزت
الاشتباكات في أرمينيا وأعالي الجزيرة.

والواقع أن ما حدث في دار الخلافة من القلاقل والفتن، بالإضافة إلى تهديد القرامطة للعراق؛ شلَّ جانباً كبيراً من القوى الإسلامية ومنعها من القيام بأي مجهود حربي. ولعل أول انتصار أحرزه يوحنا كوركواس يتمثل في استيلائه على ملطية التي ظلت هدفاً للمحاولات البيزنطية المتكررة، بفضل أهميتها الاستراتيجية. غير أن كوركواس وجد نداً له في شخص سيف الدولة الحمداني الذي تولى آنذاك قيادة الجهاد الإسلامي ضد البيزنطيين.

وتمكن في عام (327 هجري)/(939 ميلادي)، من إحراز انتصار واضح على القائد البيزنطي في إقليم أعالي الجزيرة بين حصنيّ زياد وسلام، ثم غزا أرمينيا وأرغم عدداً من الأرمن على الاعتراف بسيادته. وظهر في أرمينيا البيزنطية، فخرَّب الجهات المحيطة بكولونيا عام (329 هجري)/(941 ميلادي).

كان هدف سيف الدولة منع بيزنطية من فرض سيطرتها على أرمينيا، واستعادة الأراضي التي استولت عليها من المسلمين في إقليم الجزيرة، على أن ما حدث من منازعات داخلية في دار الخلافة، وأدَّى إلى الاصطدام بين الحمدانيين والأخشيديين؛ منع سيف الدولة عن المضي في غزواته. فاستغل كوركواس هذه الحالة واستأنف القتال. فأغار على حلب في عام (330 هجري)/(942 ميلادي)، واستولى في العام التالي على ميافارقين وآمد ودارا وتصيبين ودخل أرزن، وحاصر الرها وأحرق رأس العين في عام (332 هجري)/(944 ميلادي).

وبفضل جهوده ازداد امتداد الأراضي البيزنطية نحو الشرق، وأضحى لبيزنطية مكانة ومهابة في آسيا الصغرى مما مهد الطريق للهجوم الواسع الذي سيقوم به الأمبراطور نقفور فوكاس ويوحنا زمسكيس فيما بعد. وعندما انتهت حالة العداء بين الحمدانيين والأخشيديين أضحى سيف الدولة مُطّلق اليدين في التصدي للبيزنطيين، وتفرغ لقتالهم.


شارك المقالة: