الاضطرابات في عهد الرشيد:
حركة الخوارج:
لم يكن الاضطراب الذي ساد بعض أجزاء دولة الخلافة العباسية ناشئاً عن حركات الطالبيين وحدهم، بل وُجد فريق من المسلمين أنكر على الخلفاء العباسيين اجبارهم وخروجهم على الأحكام الشرعية، وهؤلاء يعتبروا الخوارج الذين نشطوا في عهد الرشيد في منطقة الجزيرة اعتباراً من عام (178 هجري)/(794 ميلادي)، بقيادة طريف الشاري وبسطوا هيمنة فعلية على أرمينيا وأذربيجان وهدَّدوا السواد في العراق على نهر ديالى، ووصلوا إلى حلوان.
اهتم الرشيد بأمر هذه الجماعة، فأرسل قوة عسكرية في عام (179 هجري)/(795 ميلادي)،
بقيادة يزيد بن مزيد الشيباني اصطدمت بها في حديثة الفرات على بعد فراسخ من الأنبار، وقضت عليها وعلى زعيمها.
الاضطرابات في بلاد الشام:
لم يخمد التطاحن القِبلي بين مراكز القوى في بلاد الشام. وقد حدث في عام (176 هجري)/ (792 ميلادي)، أن انفجرت الأوضاع في دمشق واستمرت زهاء عامين، مما دفع الرشيد إلى إحداث تغييرات إدارية تناولت الولاة. لكن الأمر لم يستتب إلا على يد كل من موسى بن يحيى بن خالد في عام (178 هجري)/(794 ميلادي) وجعفر بن خالد في عام (180 هجري)/(796 ميلادي) بعد تجدُّد الاشتباكات.
الاضطرابات في أفريقيا:
سادت الاضطرابات في أفريقيا اعتباراً من عام (171 هجري)/(787 ميلادي)، بفعل قدوم
الخوارج وقادات البربر والجند، فبعثّ الرشيد القائد هرثمة بن أعين ولياً على أفريقيا وأمره بنزع الانتفاضات وتوطيد الأمن، فنجح في مهمته ودخل القيروان وأمّن الناس. ويبدو أن الخلافات بين الفئات الإسلامية المتعددة كانت واسعة فتجدّدت القلاقل، ولم يتمكن هرثمة من رأب الصدع، فعزله الخليفة بناء على طلبه في عام (180 هجري)/(796 ميلادي)، كما لم يتمكن الولاة الذين جاءوا من بعده من السيطرة على الموقف.
فانتهز الفرصة إبراهيم بن الأغلب عامل إقليم الزاب، في الجزائر اليوم هذه الأوضاع القلقة وطلب من الخليفة توليِته على أفريقيا ووعده بتهدئة الوضع. استجاب الخليفة لطلب عامله؛ وعهد إليه بالولاية على أفريقيا في شهر جمادئ الآخرة عام (184 هجري) شهر تموز عام (800 ميلادي). ونجح إبراهيم في تحقيق الاستقرار مُتبعاً في ذلك سياسة معتدلة وازدهرت أفريقيا في عهده وشهدت حركة عمرانية واسعة ونشاطاً اقتصادياً كبيراً. وقد مهّد إبراهيم هذا لقيام دولة الأغالبة التي ما لبثت أن استقلت عن الإدارة المركزية في بغداد، واتخذت القيروان حاضرة لها.
الاضطرابات في المشرق:
أطلق الرشيد أيدي عماله على الأقاليم، ولم يتهمهم في تصرفاتهم. فاشتط بعضهم وكانوا سبباً في قيام الانتفاضات الشعبية. وقد ظهر أثر ذلك في خراسان بشكل خاص، فقد اهتم وُلاة هذا الإقليم بمصالحهم الشخصية وتطلعوا إلى الإثراء، وأهملوا شؤون الرعية، حتى إن بعضهم زاد الضرائب تعسفاً. ولعل أكثر الولاة جشعاً هو علي بن عيسى بن ماهان الذي حكم خراسان مدة
عشرة أعوام، تميزت بالظلم الذي وقع على الناس، حتى لم يعد باستطاعتهم احتمال المزيد.
وحصل في تلك الظروف، أن خرج رافع بن الليث بن نصر بن سيار على الحكومة المركزية، بسبب دوافع شخصية على الأغلب وتبعه كثير من سكان خراسان وبلاد ما وراء النهر، بسبب كراهيتهم لسياسة العباسيين وكتب إليه أهل نسف بأن يوجه إليهم من يُعينهم على الوالي العباسي.
بسبب نشوء هذه الحركة المعادية، اضطر الوالي علي بن عيسى أن يُدافع عن مكانته حُكمه إلا أنه فشل في قمع الانتفاضة وانكشف أمره أمام الرشيد الذي عزله. وصادر أمواله وعين هرثمة بن أعين مكانه، وأمره بإنصاف السكان ومعاملتهم بالحُسنى، ويبدو أن رافعاً استغلَّ هذه الأوضاع القلقة، وجدَّد حركته المُعادية للحكم العباسي، فاضطر الرشيد أن يخرج بنفسه إلى خراسان لوضع حد للاضطرابات فيها، إلا أن المنية وافته وهو في الطريق.