التطورات السريعة في جذور الحياة العباسية

اقرأ في هذا المقال


التطورات السريعة في جذور الحياة العباسية:

لقد حفلت الأعوام الأربعة الأخيرة من حياة دولة الخلافة الأموية، (129-132 هجري)/(‏746-750 ميلادي)، بتطورات سريعة شكّلت جذور الحياة العباسية وتجلّت فيها مظاهر ضعف العنصر العربي بشكل عام بفعل ما ساده من نزاعات وانقسامات حادة وبرز خلالها ضعف الأمويين بشكل خاص، وشهدت عمليات تصفية النظام الأموي وظهرت القوى الجديدة من بين ركام المعارك على مرحلتين: مرحلة أبي مسلم الخراساني ومرحلة قحطبة بن شبيب، وانتهت بقيام دولة الخلافة العباسية.

مرحلة أبي مسلم الخرساني:

نزل أبو مسلم فور وصوله إلى خراسان في بلخ ونال بعد فترة قصيرة ثقة سليمان بن كثير، ثم أخذ يدير الأمور بحكمة ودهاء، فراح يتنقّل في قرى الشرق، يحثُّ أهلها على الالتفاف حول الدعوة. وقد أصاب نجاحاً كبيراً في ذلك، فاستقطب الموالي بما صوّر لهم من فساد الحكم الأموي وأثارهم بما كانوا يعانونه من ظلم في ظله ووعدهم بأنه سيجعلهم سادة وسيملكهم الأرض، كما نجح في استمالة الدهاقنة وأهل الريف بتقريبه بين العقيدة الإسلامية والمعتقدات الشعبية خاصة فيما يتعلق بمذهب تناسخ الأرواح.

ثم استقطب القبائل العربية اليمنية وانضم إليه أهل التقادم المعروفين بمعارضتهم للنظام الأموي. بعد أن اطمأن أبو مسلم إلى ما وصلت إليه الدعوة من القوة والانتشار، رفع تقريراً بذلك إلى القيادة في الحميمة. ومن جهته، أخذ الإمام إبراهيم بن محمد زمام المبادرة، فحدّد تاريخ بدء التحرك آخذاً بعين الاعتبار الظروف الداخلية لقوة الدعوة والظروف الداخلية المتردية لدولة الخلافة الأموية.

وفعلاً أعلنت الثورة في خراسان يوم الخميس في الخامس والعشرين من شهر رمضان عام (‎129 هجري)/ شهر حزيران عام (747 ميلادي) على يد سليمان بن كثير. فالتفّت العباسين حول أبي مسلم وقد اتخذوا السواد شعاراً في ملابسهم وألويتهم ولذاعرفوا بالمسودة. وأقيمت في يوم عيد الفطر في (سفيذنج) أول صلاة لأنصار العباسيين فاتكشف أمرهم. وكان لا بد من الصدام مع القوات الأموية لتحديد الموقفين.

وعمد أبو مسلم إلى أسلوب المزج في القوة العسكرية، يهدف التفريق بين القوى الخراسانية، ودفعها إلى الاصطدام حتى لا تتحد كلمتها ويقوى أمرها مما يشكل خطر على الدعوة العباسية. فنجح بدهائه في الإبقاء على العداء بين الوالي الأموي على خراسان نصر بن سيار وخصومه وتعاون مع جديع الكرماني، ثم مع ابنه علي بعد ذلك وشيبان الحروري للإطاحة بالأمويين، ثم زرع بذور الشقاق بين الوالي الأموي وزعماء القبائل. وتخلّص أخيراً من شيبان الحروري وابني الكرماني علي وعثمان.

وهكذا تحرك أبو مسلم على كافة جبهات القوى العسكرية. ونجح في قطف ثمار جهوده بالقضاء على خصومه والتفرد بحكم خراسان وفرَّ نصر إلى نيسابور. وعمد الزعيم الخراساني بعد أن ثبّت أقدامه في المناطق التي سيطر عليها، إلى التخلص من الزعماء البارزين الذين اعتبرهم منافسين له على الزعامة. فقتل سليمان بن كثير الخزاعي نقيب النقباء كما قتل ابنه محمد وتخلص من عدد من أنصار الثورة الذين شاركوه في العمل العسكري.

وخلا بذلك الجو لأبي مسلم؛ وأضحى الحاكم الأوحد لبلاد المشرق واتخذ لنفسه لقب أمير آل محمد‏ وهذا يعني أنه اعتبر نفسه أكثر من مجرد والٍ على مقاطعة. تجلّت خلال حرب خراسان قدرات أبي مسلم العسكرية والإقتصادية والإدارية تلك القدرات الكبيرة التي تجمّعت لهذا الوالي والتي جعلته من بين أعظم القادة العباسين.

وأضحى هذا الرجل بعد أن تقرَّب من سكان البلاد المحليين أمل الموالي الذين تطلعوا إليه، وتوسموا فيه القدرة لرد اعتبارهم، وإحياء الإرث الفارسي القديم ويمكن اعتباره مقدمة لظهور البرامكة والطاهريين والبويهيين واضعاً بذلك أسس الدولة المخراسانية.

مرحلة قحطبة بن شبيب:

ما كادت الثورة العباسية تستقر فى خراسان، وتتهياً القيادة فيها لتسديد الضربة الأخيرة لنصر بن سيار المتقهقر إلى نيسابور ومعه أنصاره من العرب من قبائل تميم وبكر وقيس حتى تقلت قيادة العمليات العسكرية من أبي مسلم إلى قحطبة بن شبيب الطائي بأمر من الإمام إبراهيم بن محمد. ويبدو أن القيادة العليا فى الحميمة تطلعت إلى ما وراء خراسان من أحداث ورأت ألا يتجاوز أبو مسلم هذه المنطقة وأنَّ العمليات العسكرية في المناطق العربية لا بد أن تُسند إلى قيادة عربية.

سيطر قحطبة على طوس ونيسابور، وأدرك نصر من جانبه استحالة المقاومة واستعادة السلطة؛ فهرب من نيسابور إلى الري. ذعرت الحكومة المركزية فى دمشق من هذه التطورات السريعة في خراسان فأرسلت الجيش تلو الجيش للقضاء على قوة الثورة إلا أنها فشلت في مهمتها. فاستسلمت المدن مثل أصفهان ونهاوند وغيرهما وأضحت الطريق إلى العراق، مفتوحة أمام ‏ جيش الثورة.

مات نصر بالري في جو الهزيمة القاتم دون أن يكسب معركة. وفقد الأمويون بموته قائداً كبيراً يقودهم في هذا الصراع الدامي مما أثّر على قضيتهم تأثيراً سلبياً. واندفع قحطبة بجيشه نحو الكوفة في جو الانتصارات، في الوقت الذي كان فيه يزيد بن هبيرة الوالي الأموي على العراق يتحرك نحوه فجرت بينهما معركة انتهت بانتتصار قحطبة.

تقهقر ابن هبيرة إلى واسط وتحصَّن بها. لكن قحطبة لم يعش ليرى النتيجة النهائية فقد غرق وهو يعبر النهر وخلفه ابنه الحسن في زحفه الظافر ودخل الكوفة في الرابع عشر من شهر محرم عام (132 هجري)/(749ميلادي) واعترف بأبي سلمة الخلال رئيس دعاة العراق وزيراً لآل محمد وقد أضحى صاحب السلطة الفعلية.

وبهذا تقرر مصير العراق، وكان استقرار الثورة في هذا البلد، بعد المشرق كسباً عظيماً بحيث أضحى من الممكن أن تظهر الدعوة وأن يعرف الخراسانيون إمامهم من آل محمد.


شارك المقالة: