التفسير الاجتماعي للثقافة:
تشتمل الثّقافة كمصطلح معين على ما في الأبعاد الأدبية والتراثية، كما تشمل جميع الأبعاد السوسيولوجية الّذي يأخذ بعين الاعتبار الآداب والفن، إضافة إلى المسار الّتي نطلق مسمى أو مصطلح عادة أو صفة اجتماعية، تلك التي تميز جماعة بشرية معينة، كالتقاليد والعادات والاحتفالات على أنواعها، ومسالك التعبير وتقاليد الطبخ وأشكال اللباس، فضلاً عن التصورات والأساطير والمعتقدات.
ما أنتجته هذه التعابير من استعدادات نتهيأ بها لمواجهة كافة مواقف المستقبل، ونهيئ من هم حولنا لاقتباسها وممارسة تعابيرها المختلفة، فالثّقافة وفق ذلك المنظور، هي ماض، كما هي حاضر ومستقبل، أي في كل ثقافة شقاً موروثاً وسلفياً، وشقاً آخر يكتسبه الخلف بالقوة من الأنماط الثقافية السائدة والمؤسسات الّتي تقوم بإنتاج وإعادة إنتاج شروط الإنتاج الثقافي.
قد ظهر مصطلح ولفظ الثقافة بشكل مبدئي في أواخر القرن الخامس عشر، وهو متجذر من الأصل اللاتيني الّتي تشير إلى الطقوس الدينية، وذلك للإشارة إلى قسمة الأرض المحروثة، وفي بداية القرن السادس عشر، كفّت الكلمة عن الدلالة على حالة الشيء المحروث، لتدل على فعل فلاحة الأرض، ولم يتكون المعنى المجازي إلا في منتصف القرن السادس عشر، إذ بات ممكناً أن تشير كلمة ثقافة حينذاك، إلى تطوير كفاءة، أي الانشغال بإنمائها، لكن هذا المعنى ظل غير دارج حتى منتصف القرن السابع عشر.
أخذت كلمة ثقافة معناها الأصلي من دولة أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إذ بدأت كلمة ثقافة بالعمل على فرض نفسها في معناها من فلاحة الأرض وتطويرها إلى ثقافة الفكر، وبهذا المعنى تم إدراجها في قاموس الأكاديمية الفرنسية، ومن ثم وتدريجياً، تحررت الثّقافة من متمماتها المضافة وانتهت إلى استعمالها منفردة للتدليل على تكوين الفكر وتربيته، فانتقلت من فعل التعلم، إلى وصف لحال الفكر وقد أخصبه التعليم، حال الفرد ذي الثّقافة، يتضح مفهوم الثقافي كمقابل لمفهوم الطبيعة.
وفي الوقت الذي تشمل فيه قواميس اللغة الإنجليزية جميعها على تعاريف سوسيولوجية أو أنثروبولوجية للثقافة تكون غالباً شديدة الوضوح، فإن نظير ذلك لم يكن متوفراً في القواميس الفرنسية، لتأثر علم الاجتماع الفرنسي بمصطلحات دوركهايم الّذي لم يستخدم كثيراً هذا المصطلح، ولم يصبح مصطلح الثّقافة شعبياً في فرنسا إلا بفضل الجيل الجديد من علماء الاجتماع الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية وبتأثير من علم الاجتماع الأميركي.
أدى تطور الدراسات في دراسة الثقافة، إلى إعادة المعرفة في مفهوم الثّقافة، إذّ أن الثّقافة تفسر على أنها أي عمل متجانس لكن في غير كمال أو انسجام، إلى هذا الحد أو ذاك، إذ يؤكد دوركايم أن المجتمع أولاً وقبل كل شيء، مجموعة من الأفكار والمعتقدات، والمشاعر المتنوعة، وما المجتمع في حقيقته إلا جزء من النشاط الفكري والأخلاقي.
ومن أبرز الأفعال وردود الأفعال الّتي يتبادلها الأفراد فيما بينهم حيث تنشأ حياة ذهنية جديدة، تنفل مشاعرنا إلى عالم، ما كان ليدور في خاطرنا أية فكرة عنه لو كنا نحيا حياتنا كأفراد منعزلين، لكن العناصر المكونة لثقافة ما لا تكون تامة الاندماج بعضها في بعض، لأنها تنحدر من منابع متباينة في المكان والزمان. بتعبير آخر، ثمة فرجة في النسق، وخاصة أن الأمر يتعلق بنسق بالغ التعقيد. هذه الفرجة هي الفجوة الّتي تتسلل منها حرية الأفراد والمجموعات لمعالجة الثّقافة.
قد بقيت الثقافة الأنثروبولوجية تتناقض بين الأمر الطبيعي والثقافي، فكان الأهم دائماً هو الطريقة الّتي يستجيب بها الإنسان للحاجات الأولية، هذه الطريقة هي الإجابة الثقافية بحد ذاتها، فليس هناك ثقافة إلا بعد تجاوز الطبيعة، لذلك فالمهم هو التجاوز والمرور من الطبيعة إلى الثّقافة، ووسائل المرور كثيرة ومتنوعة أهمها اللغة كوسيلة للتواصل، إذ أصبح العامل البيولوجي شيئاً ثانوياً بالنسبة إلى علم الثّقافة.
ولعل أوضح مثال هذا المرور من الطبيعة إلى الثّقافة، هو مثال المثلث الطبخي الّذي قدمها بعض الكتاب، كنموذج ينتقل فيه غير المكتمل إلى مطبوخ ثقافياً، وإما إلى متعفن طبيعياً، وبالتالي تمثل عملية الطبخ نشاطاً وسيطاً بين الطبيعي والثقافي، إن الثّقافة وفق ذلك، تؤول الطبيعة وتحولّها.
ومن أبرز الأمثلة على التفسير الاجتماعي للثقافة، الوظائف الحيوية التي تزودها الثّقافة بمعلوماتها، الأكل والنوم والتزاوج وكذلك السباحة، أيّ كل ممارسات الجسد، وقد تحدث بعض علماء الاجتماع في دراستهم عن تقنيات الجسد كدليل على التفسير الاجتماعي للثقافة.