التتار في عهد الخليفة المستعصم بالله

اقرأ في هذا المقال


التَّتَار في عهد الخليفة المستعصم بالله:

في الفترة الذي بدأ يشتد تفكك المد الصليبي في بلاد الشام وينحسر عن مناطق سبق له أن سيطر عليها، وترحل بعض الجماعات من الصليبيين عن جهات كان لها أن سطت عليها لما أصابها من يأسٍ في الاستقرار، ولما حلَّ بها من هزائم، وقبل أن يودع الصليبيون إماراتهم التي أسسوها بعد أن ألقوا بوحشيتهم عليها، وأذاقوا همجيتهم لسُكانها قبل الرحيل الأخير بدأت تظهر في شرق ديار الإسلام قوة عظيمة تتمتع بقدرةٍ كبيرةٍ على الحركة وعندها إمكانات قتالية ضخمة، تلكم هم التتار.

لقد خشي الصليبيون أن يُسلم التتار باحتكاكهم مع المسلمين كما حدث لأبناء عمومتهم من الترك: من السلاجقة والغزّ وغيرهم وإذا ما حدث هذا فإن المسلمين يزدادون قوةً إلى قوتهم ويُخشى على أوروبا وليس على الصليبيين في بلاد الشام فحسب، لذا يجب أن يكون عمل الصليبيين بالدرجة الأولى الحيلولة دون حدوث ذلك، ثم العمل لجعل التتار يُقاتلون المسلمين الذين يقعون عندئذٍ بين نارين: نار التتار في الشرق، ونار الصليبيين في الغرب.

ومن هذا المنطلق فقد بعث الصليبيون الرسل إلى التتار، كما أنهم أطمعوهم بدولة الإسلام وغلاتها، ومُنتجاتها، وخيراتها، وإمكاناتها، وجمالها، وأهميتها، وإمكانية الإفادة منها، وحرّضوهم على غزوها وامتلاكها هذا بالإضافة إلى الرسل كانت النساء النصرانيات التي دخلت بيوتات التتار على شكل حليلات أو خليلات تعمل عمل الرسل بشكل مستمر، وهذا ما أوجد الفكرة عند التتار للانطلاق نحو الغرب والاستيلاء على ديار الإسلام ولم يبقَّ عندهم إلا وجود مُبرر للقيام بهذا العمل أو محرّض له دوافعه المباشرة.

أصل التتار:

التتار شعب من أهل البدو يسكنون على جهة أطراف صحراء غوبي. (أراضي التتار في منطقة اطراف دولة الصين، وهم سكان براري، ومشهورون بالشر والغدر). حياتهم رعوية، ونظامهم قِبَلي يطيعون رؤساءهم طاعة كبيرةً، ويحبون الحرب والسلب، يعبدون الكواكب، ويسجدون للشمس أثناء شروقها، يأكلون لحوم الحيوانات جميعها حتى الكلاب، وتنتشر عندهم الإباحية، وتعرف ديانتهم القديمة بالشامانية، يُقدّمون الأضاحي لبعض الحيوانات الشريرة ويُقدّسون أرواح الأجداد.

والتتار يرجع أصلهم إلى عشائر مُتفرعة عنهم كلهم من المغول، والترك، والسلاجقة وغير ذلك. وقد يكون تحكم قبيلة المغول على التتار في مرحلةٍ من مراحل تاريخها هو الذي جعل أسم المغول يطلق على الجميع. وهناك من يقول: إن التتار والمغول أخوان وقد سيطر المغول مع الفرعين عندما قام جنكيزخان يدك الدول، وعلى كل فإن كلمة تتار اليوم تُطلق على القبائل الموجودة في شرق روسيا وسيبيريا وشبه جزيرة القرم.

على حين تطلق مصطلح المغول على العشائر الموجودة في الصين وأفغانستان. وكان المغول هم المُتحكمون أيام جنكيز خان واسمهم يعُمّ القبائل جميعها، والتتار هم الذين تحكموا أيام تيمورلنك وشملت اسمائهم كافة القبائل. ولمّا قام جنكيزخان بتجميع قبائل التتار حوله وانطلق نحو الشمال الشرقي في بلاد الصين يضُم البلاد إليه بدأ التحريض من قبل الصليبيين على بلاد المسلمين، فاتجه جنكيزخان نحو الغرب.

جماعات أهل التتار وجنكيز خان:

وتكونت جماعات من التتار حوالي عام (606 هجري)، في مناطق فرغانة فعمل خوارزمشاه محمد تكش غلى تخريب فرغانة، والشاش، وكاسان بسبب خوفه من أن يقوم التتار بالاستيلاء عليها. وبدأ التتار يُتخطفون في تلك الجهات، واستمرت الحالة حتى عام (615 هجري). أرسل جنكيز خان رُسلاً للمهادنة بينه وبين خوارزمشاه محمد تكش، وليسير التجار بين المملكتين فأجابه خوارزمشاه إلى ذلك.

وجاء بعض التجار التتار إلى بلاد ما وراء النهر ليشتروا ثياباً لجنكيزخان الذي انطلق إلى بعض نواحي تركستان فلمّا وصلوا إلى بلاد خوارزم شاه أخبره نائبه على تلك البلاد بذلك فأمره بقتل التجار، وأخذ ما معهم، وذلك لأن خوارزمشاه بعد أن ملك بلاد ما وراء النهر من (الخطا) قطع الطريق بينه وبين بلاد تركستان ليحول دون هجوم (الخطا) عليه وليقطع عنهم البضائع والحاجيات فلمّا استولى التتار على تركستان بدؤوا يُغيرون على بلاد ما وراء النهر للحصول على حاجاتهم ورغبةً في السلب والنهب فلمّا جاء تجارهم أمر خوارزمشاه بقتلهم.

وبعث عيوناً له إلى تركستان ليتعرف على أخبار التتار وأعدادهم فلما رجعت إليه الأخبار بكثرة التتار وقدرتهم القتالية وصنعهم بأنفسهم للسلاح الذي يقاتلون به ندم على ما بدا منه، وبدأ يستشير أصحابه وبينما هو في المشاورة جاءته رسالة من جنكيزخان مفادها التهديد إذ يقول: تقتلون تجاري وتأخذون أموالهم فإني قادم إليكم بجنود لا قبل لكم بها، فما كان من خوارزمشاه إلا أن قتل رسول جنكيزخان وحلق لحى من معه.

وأعادهم إلى جنكيزخان ليُعلّموه بما فعل بهم، ويُخبروه أن خوارزمشاه قادم إليهم أيضاً، وسار خوارزمشاه فعلاً فأغار على بلاد التتار، ورجالها عنها غائبون مشغولون بقتال أحد أمرائهم، فقتل من وجد من الأطفال وسبى النساء، وعاد التتار وعلموا وهم على طريقهم بالخبر.

فجذوا السير فأدركوا خوارزمشاه ولم يُغادر ديارهم بعد فوقعت بين الجانبين معركة رهيبة كادت تفنيهما لما صبروا، وغادر كل صاحبه يائساً من الحرب لِمَا ناله، ورجع خوارزمشاه إلى بُخارى، وبدأ يستعد للقتال، فحصّن بُخارى وسمرقند، وسار يجمع الجند من خوارزم وخراسان.

وجاء التتار وخوارزمشاه غائب للاستعداد فدخلوا مدينة بُخارى بعد أن طلب أهلها الأمان، ولكن اعتصم من اعتصم بالقلعة فملكها عنوةً، وعمل الطاغية جنكيز خان بأهلها العجائب والمُبيقات، ثم اتجهوا إلى سمرقند فتصدى لهم أهلها، وتراجع التتار وتبعهم أهل سمرقند ظناً بالنصر، وكانت الكمائن فأصيب أهل سمرقند، وفعل بهم الطاغية ما فعل ببخارى.

ووجّه عشرين ألف فارس في أثر خوارزمشاه، فانطلق إلى مازندران، ومنها إلى همدان، ثم رجع إليها، ثم انتقل إلى جزيرة في بحر الخزر مات بها عام (620 هجري). وسار الفرسان التتار إلى مازندران فأخذوها، ثم اتجهوا إلى الريّ وهمدان، ثم ساروا إلى أذربيجان وأخذوها، وانتصروا على الأكراد والتركمان والكرج، ودخلوا باب الأبواب (دربند)، وانطلقوا إلى بلاد القفقاس فقاتلوا اللان، والجراكسة، وانتصروا عليهم.

وانطلقوا عام (620 هجري)، إلى بلاد روسيا فدخولها ونهبوها، وقاتلهم البلغار فانتتصروا عليهم، وقتلوا كثيراً من التتار، وعاد الباقي ممن بقي منهم إلى جنكيز خان، وخلت أرض روسيا، والقفقاس منهم. أما جنكيزخان قد بقي في سمرقند، وأرسل قسماً ممن بقي معه إلى فرغانة، وآخر إلى ترمذ، وكل احتل ما سار إليه، وفعل بالسكان فعل التتار، ورجع إلى جنكيزخان، ولمّا اجتمعت لديه الجيوش ثانية أرسل جيشاً عظيماً بإمرة أحد أولاده إلى خوارزم.

ووجه جيشاً آخر إلى خراسان فوصل إلى بلخ فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وعندما وصل إلى الطالقان لم يستطع دخول قلعتها فأخبر جنكيزخان فسار إليها بنفسه، وملكها ورجع إلى سمرقند بينما اتجه الجند إلى مرو فحاصروها، ثم نكثوا بعهدهم عندما دخلوها، ثم ساروا إلى نيسابور، ومنها إلى طوس، فهراة. ثم رجعوا إلى جنكيزخان بعد أن انتهوا من خراسان.

وأما الجيش الذي سار إلى خوارزم فقد دخلها ثم عاد إلى جنكيزخان. وعندما اجتمعت الجيوش لديه، جهز جيشاً قوياً وسيّره إلى غزنة وعليها جلال الدين خوارزمشاه فانتصر المسلمون، وفرّ التتار عائدين إلى الطالقان. والتقى المسلمون ثانية مع التتار في كابل، وانتصر المسلمون مرةً أخرى، ثم اختلفوا ففارقهم سيف الدين الخلجي (والخلجيون من الأتراك)، واتجه إلى الهند وملكها، وحاول جلال الدين إعادته بكل وسيلةٍ فلم يتمكن.

وشعر جلال الدين بضعف المسلمين فسار نحو السند، وشعر كذلك جنكيزخان فلاحقه، ولم يتمكن جلال الدين من عبور نهر السند فاضطر إلى قتال التتار، وهُزِمَ المسلمون، واستطاعوا في النهاية اجتياز النهر، ورجع التتار إلى غزنة فملكوها وليس فيها جند فجعلوها أثراً بعد عين بناءً وسكاناً، بعد أن مثّلوا وارتكبوا المُنكرات التي لا تذكر من هولها. ووجه جنكيز خان جماعةً من جنده إلى الري وهمدان وكان العمران قد عاد إليها فقتلوا من فيهما وخربوهما.

وكان التتار يخرجون بالأسرى ويطلبون منهم القتال معهم وإلا قتلوهم لذا كانوا يضحون بأعداد كبيرة، ويُوهمون الأعداء بكثرتهم، ويُخيفونهم بأفعالهم فيفرّون من المعارك، وتتقطع قلوبهم رُعباً قبل لقاء التتار. وصمد غياث الدين بن خوارزمشاه علاء الدين محمد بن تكش في أصفهان: وامتنع عن التتار الذين عجزوا عن دخول مدينته فلما انصرفوا عنها توسّم وملك أجزاء من فارس.

وفي عام (622 هجري)، وصل إليه أخوه جلال الدين عائداً من الهند، واتجه من أصفهان إلى خوزستان ليملكها فلم يتمكن فنهبها، وسار إلى العراق فقابله جند الخليفة ومنعوه، ثم سار إلى أذربيجان فملكها، وهُزمت الكرج أمامه فدخل بلادهم، وولّى عليها أخاه غياث الدين، وعاد هو إلى تبريز، ثم عاد إلى تفليس عاصمة الكرج وفرض الإسلام على أهلها، وتصرّف تصرف الفاتح الظالم.


شارك المقالة: