الحركات المعادية للعباسيين في عهد المهدي:
حركات الزنادقة:
انتشرت في المجتمع الإسلامي منذ العهد الأموي ظاهرة الزندقة وازدادت شاطاً وحّدة في العصر العباسى الأول، والواقع أن كلمة الزندقة أطلقت في الأصل على أتباع الديانات المجوسية. كالزرادشتية وبالمانوية، ثم تدرجت فشملت الملحدين والمتشككين في الدين من أتباع ابن ديصان ومرقيون وماني، ثم اتسع هذا اللفظ ليشمل الشعوبية، وأصبح لهذا الاصطلاح بعد ذلك، دلالات دينية سياسية عامة.
حين استخدمته السلطة العباسية لضرب خصومها السياسيين أو الدينيين وأطلق أخيراً على بعض الخلعاء والمجَّان والظرفاء. والحقيقة أن الزندقة حركة سياسية مُغلّفة بإطار فكري ديني منظم، يُنادي أتباعها بنشر مذهب المانوية بكل ما يحويه من عقيدة دينية وتراث فكري باعتباره بديلاً عن التراث الإسلامى العربي. وربما كمنت السياسة وراء دعوات المتفلسفين، كما كانت
وراء المصادرة من جائب الدولة وحُكمها لأن الزندقة التي كانت تتستَّر بستار الفلسفة، إنما كانت، في ناحية من نواحيها ثورة مجوسية ترمي إلى هدم الدولة الإسلامية من أساسها وإقامة الدولة الفارسية مكانها.
ومن الواضح بأن الزندقة التي يتركز عليها بحثنا، هي الحركة المانوية التي تجدّد انتعاشها بعد الفتح الإسلامي في العراق والأقاليم الفارسية، وكان سبب انتشار هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي إبّان العصر العباسي؛ الحرية الدينية التي تمتّع بها أصحاب الديانات بعد الفتح، مما أدّى إلى نوع من صراع الأفكار والآراء في المجتمع كانت نتيجته ظهور جماعات من المفكرين الفرس أخذوا يُروّجون للحضارة الساسانية ومثلُها.
ويدعون إلى تطبيق نظمها وقيمها في المجتمع والإدارة والبلاط باعتبارها بديلاً عن الحضارة الإسلامية والنظم الإسلامية، خاصة وأن هؤلاء شعروا أن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لم يُحقق أهدافهم المتمثلة في إقامة حكومة فارسية في مظهرها وحقيقتها، وفي سلطتها ولغتها ومعتقدها الديني ورأوا أن ذلك لا يتحقق والإسلام في سلطانه، فأخذوا يعملون على نشر دين المانوية داخل المجتمع الإسلامي وإحياء التُراث المانوي (الفارسي القديم )، عن طريق نشر الكُتب القديمة وتعريبها عن الفارسية، مستهدفين إحلال الثقافة والفكر المانوي محل الثقافة والفكر الإسلامي.
لاحظ الخلفاء العباسيون كمية الخطر الذي يحدث بدينهم ووطنهم بسبب توسع أفكار ومعتقدات ومبادىء الزندقة، فهبّوا لإبادة هذه الدعوة المنحرفة وأوصى المنصور ابنه المهدي بمحاربتهم. وبذلك ركز الخليفة المهدي بأمر قتلهم الزنادقة؛ فتتّبعهم في سائر الآفاق من خلال حملات منظمة. فاستحضرهم وقتلهم صبراً. وأنشأ ديواناً خاصاً بهم سماه (ديوان الزنادقة) عيّن عليه موظفاً خاصاً هو (صاحب الزنادقة)، كما أمر المُتكلمين بتصنيف الكتب للرد عليهم ضمن مخطط فكري لكشف أساليبهم الفكرية.
وتظهر شدة المهدي وحرصه وصرامته في تعقُبهم، واضحة في وصيته لابنه الهادي. ومما لا شك فيه بأن المهدي كان مدفوعاً في ملاحقته للزنادقة بعامِلين:
- ديني؛ بفعل أن مبادئهم القائمة على الثنوية تبطل التكاليف الشرعية وأن تأويلهم لنصوص القرآن والحديث يخالف المعنى الطبيعي ومُنافٍ للأصول الاعتقادية، مما يشكل خطراً جدّياً على العقيدة الإسلامية.
- سياسي؛ بفعل تطور العلاقات بين العباسيين وبين العناصر الفارسية المتطرفة واتجاهها نحو التأزم.
حركة المقنَّع: (159-161 هجري)/(776-778 ميلادي)
بقيت الموجة الإلحادية ظاهرة في عهد المهدي. فبعد الحركات التي قامت في وجه المنصور، ظهرت في عهد المهدي حركات مُشابهه لا تختلف نتائجها أهدافها عن سابِقاتها من بينها حركة المقنَّع الخراساني الذي خرج في ناحية مرو فادّعى الربوية وارتكزت حركته على الحلولية والتناسخ، كان لحركة المقنع أهداف سياسية ودينية.
فمن الناحية السياسية، اتصلت هذه الحركة بشخصية الزعيم الفارسي أبو مسلم الخراساني وهي استمرار لحركتي سنباذ والراوندية؛ كما اصطبغت بالصبغة العنصرية، هادفة إلى إقامة كيان فارسي على حساب الدولة العباسية. لهذا أيّد أتباعُ أبي مسلم المقنَّع وانضوى المبيضة في بخارى وصغد تحت لوائه، وساهم كل ساخط على النظام العباسي في حركته.
ومن الناحية الدينية، تأثرت تعاليم المقنَّع بالمبادىء الخرمية. فأحيا تعاليم مزدك وأبطل التكاليف الشرعية وترافقت فكرة التناسخ التي نادى بها، مع هدم أركان الدين الإسلامي. تَبِعَ المقنّع خلق كثير خاصة في بخارى والصغد وانتشر أتباعه في نواحي كش ونسف. وأخذوا يغيرون على المناطق الآمنة، فتصدى لهم عدد من القادة العباسيين، من بينهم سعيد الحرشي، الذي تمكن من هزيمتهم والقضاء عليهم، أما المقنّع فقد أحرق نفسه قبل القبض عليه.
حركات مختلفة:
وشَهِدَ عهد المهدي عدة حركات أخرى مناهضة للحكم العباسي إلا أنها لم تترك أثراً وقمعها الخليفة دون عناء منها: حركة يوسف البرم في خراسان وحركة عبد الله بن مروان بن محمد الأموي في بلاد الشام وحركة الخوارج بقيادة عبد السلام بن هشام اليشكري.