الصراع بين أنصار التنظير السوسيولوجي وأنصار النزعة الإمبيريقية في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


الصراع بين أنصار التنظير السوسيولوجي وأنصار النزعة الإمبيريقية في علم الاجتماع:

هناك حوار مستمر ودائم بين النظرية والواقع في كافة العلوم سواء الطبيعية أو الاجتماعية، فالدراسات العلمية أو الإمبيريقية تسهم في إختيار الفروض تمهيداً لتكوين النظرية العلمية، كذلك فإن الدراسات الإمبيريقية يمكن أن تسهم في تغيير بعض النظريات سواء بشكل حذف بعض الجوانب التي أثبتت الدراسات الواقعية خطأها، أو بشكل إضافة قضايا جديدة إليها، فالفعل الإمبيريقي يعمل في كل الحالات على اختبار النظرية.

أما النظرية العلمية فإنها تسهم في إنارة الطريق أمام الباحثين الميدانيين من حيث توضيح نقاط التركيز والفروض المطلوب اختبارها ونموذج التفسير الذي يمكن أن تفسر في ضوئه نتائج العمل الإمبيريقي.

ولعل المشكلة الجوهرية هي أن علم الاجتماع لا يستمتع بهذه الحالة المثالية، ففي علم الطبيعة هناك تفاعل خلاق بين النظرية والتطبيق، أما في علم الاجتماع فإن الوضع مختلف إلى حد كبير، فقد تمت صياغة أغلب نظريات علم الاجتماع اعتماداً على التأمل النظري أو بعيداً عن الأبحاث الميدانية المقارنة عبر ثقافات متعددة، وبالمثل فإن أغلب ما يتم في علم الاجتماع من أبحاث ميدانية ليس له سوى ارتباط بالبناء النظري القائم في علم الاجتماع، ويقول آخر فإن هناك انفصالاً بيناً بين النظريات القائمة في علم الاجتماع وبين الدراسات الميدانية.

كيفية تقسيم علم السوسيولوجي عند فيبر ورايت مليز في علم الاجتماع:

ولهذا الانقسام جذوره في قلب علم الاجتماع، فقد قسم فيبر هذا العلم إلى قسمين هما، القسم الأول وهو يضم المتخصصين في التفسير، والقسم الثاني وهو يضم المتخصصين في المادة أو الموضوع.

كذلك فقد ميز رايت مليز بطريقة ساخرة بين جانبيين لعلم الاجتماع وهما، الجانب الأول يتمثل فيما يطلق عليه النظرية الكبرى، والجانب الثاني يتمثل فيما يطلق عليه النزعة الإمبيريقية المجردة، ويشير مليز إلى أن أكبر ممثل للجانب الأول هو تالكوت بارسونز، ويمثل الجانب الثاني هو بول لازار سفليد.

والواقع هذا التميز الشائع في علم الاجتماع بين البحث في النظرية وبين إجراء الدراسات الإميريقية، يفرض نفسه على كل باحث في علم الاجتماع، وهذا يعني أنه على كل باحث أن يتخذ موقفاً إزاء هذا الانقسام.

والواقع أنه يمكن لنا تفسير هذا الانقسام من خلال المنظور التاريخي، فقد تأثر علم الاجتماع بطبيعة نشأته التاريخية، فقد تطور هذا العلم عن فلسفة التاريخ والفلسفات الاجتماعية والنزعات الإصلاحية، ويتضح هذا الأمر بجلاء عند أنصار الوضعية السوسيولوجية مثل سان سيمون وكونت وغيرهما.

فقد قدم لنا أوجست كونت مشروعاً تصورياً اعتقد وافترض أنه يمكن أن يقدم لنا التفسير والتوضيح الكافي لبناء وتكوين المجتمع وتطوره وازدهاره، كذلك فقد تصور كونت أن المشروع الذي قدمه ليس في حاجة إلى تبرير، فعلى الرغم من إيمان وصدق ذلك المفكر بأهمية الاختيار الوضعي أو العلمي لكافة الأفكار والتصورات التي يقدمها المفكر والعالم، إلا أنه لم يخضع للتصورات التي قدمها للاختبار العلمي الإمبيريقي.

كما أنه خلال نفس المرحلة التاريخية ظهرت مجموعة من الدراسات والمعارف التي ركزت على ضرورة التخلي عن التأمل الفلسفي، وضرورة استنتاج الحقائق العلمية المتعلقة بالمجتمع من الملاحظة الدقيقة للواقع، ومن خلال المنهج الاستقرائي وقد ظهرت هذه الدراسات في مجلة الجمعية الإحصائية في لندن اعتباراً من سنة 1838 ميلادي.

هل النشأة التاريخية لعلم الاجتماع أدت إلى الفصل بين النظرية والبحث الميداني؟

وهكذا فإن النشأة التاريخية لعلم الاجتماع كانت هي المسؤولة إلى حد كبير عن هذا الفصل المصطنع بين النظرية والبحث الميداني أو الإمبيريقي، فقد ظهرت مجموعة أخرى لم يحاولوا ضياع الوقت في بناء وتكوين نظريات سوسيولوجية، على اعتبار أن مثل هذه النظريات ليست في نهاية الأمر سوى قوالب فارغة المضمون، وبعبارة أخرى فإن السوابق التاريخية قدمت لنا نموذجين متعارضين الدراسة السوسيولوجية، وتركت آثاراً ما زالت مستمرة حتى الآن على الدراسات السوسيولوجية الحديثة.

وعلى الرغم من هذا الواقع القائم في علم الاجتماع، إلا أننا يجب أن نعيد التأكيد على أن التعارض بين ما هو نظري وما هو إمبيريقي في أي علم، بما في ذلك علم الاجتماع تعارض مصطنع وغير حقيقي، بل أن هذين الجانبين في الحقيقة جانبان متكاملان.

وتجدر الإشارة إلى أن الصراع في علم الاجتماع المعاصر لم يعد صراعاً بين أنصار التنظير وأنصار الإمبيريقية، بقدر ما هو صراع إيديولوجي بين أنصار الاتجاه المادي أو الماركسي وبين أنصار الاتجاه الوظيفي في العلم الغربي، فمؤيدي الاتجاه الأول يقومون بالانطلاق من بناء نظري سابق، قائم في جوهره على المادية التاريخية، في المقابل يرفض مؤيدي الاتجاه الثاني الالتزام بصياغات نظرية سابقة، ويرون أهمية الاعتماد على نتائج الدراسات الميدانية، ولكن هذا لا يعني أن أنصار الاتجاه الوظيفي لا يقومون بالاستناد ضمنياً إلى مجموعة من الفروض الخلفية مثل فكرة الحقوق الطبيعية والمبادئ النظرية البرجوازية.


شارك المقالة: