اقرأ في هذا المقال
- الفيلم الإثنوجرافي كأداة جديدة للبحوث في الأنثروبولوجيا
- الفيلم الإثنوجرافي والأنثروبولوجيا الأكاديمية
يعتبر الفيلم الإثنوجرافي من أدوات البحث الجديدة في البحوث الميدانية الأنثروبولوجية، حيث يستخدم كنموذج للتعبير وأداة لتفسير نتائج البحوث الأنثروبولوجية الميدانية، وفي هذا المقال سنعرض الفيلم الإثنوجرافي كأداة جديدة للبحوث في الأنثروبولوجيا وأيضاً الفيلم الإثنوجرافي والأنثروبولوجيا الأكاديمية.
الفيلم الإثنوجرافي كأداة جديدة للبحوث في الأنثروبولوجيا:
يمر علم الأنثروبولوجيا اليوم بمرحلة نقدية تقوم على مراجعة تراث العلم من المصطلحات المفاهيم والنظريات والمناهج وأدوات البحث. حيث بدأ علم الأنثروبولوجيا يراجع مواقفه من نظرة الدول الاستعمارية واستخدامها للبحث الأنثروبولوجي من ناحية، ومن مناهجه ونظرته في دراسة مجتمعات الدول النامية من ناحية أخرى.
وفي تطور مشابه، ولكن في مجال مختلف بعض الشيء، بدأت الكتب الأنثروبولوجية تدريجياً تفسح صفحاتها للصور. كما أصبح الفيلم الإثنوجرافي طريقة رئيسية من طرق التعبير، حيث وجد فيه بعض الأنثروبولوجيين أداة جديدة لعرض نتائج بحوثهم الميدانية.
كما يمكن القول بأن الفيلم السينمائي الإثنوجرافي قد ظهر في نفس الزمن الذي ظهرت فيه السينما العادية. ولكي نفهم هذا المفهوم علينا أن نرجع للأفلام السينمائية القديمة التي تظهر لنا الأشخاص في تلك الأعوام البعيدة، وهم يرتدون الملابس البيضاء، والقبعات العالية، ومحمولين على المحفات العالية.
ثم أخذ الفيلم الأنثروبولوجي في التعرض لبعض المحن والصعوبات؛ وذلك بسبب طبيعته الخاصة كأداة للتوثيق وللتأثير القوي حيث تحول على يد بعض المخرجين إلى أداة جديدة للدعاية البروباجندا السياسية. حيث لم تعد هذه الأفلام تقدم شيئاً مفيداً، إذ يقال أن السينما قد تحولت إلى أداة لدعم ومساندة الأيديولوجيات من خلال بعض الصور المملة والخطب الطويلة.
إلا إنه عبر الزمان الطويل حدثت تغيرات مهمة، وتغيرت الموضات أيضاً، كما أن الأيديولوجيات والحضارات تغيرت. وأفسحت مكانها لبعض الأصداء الجديدة. وعلى خلاف هذه النوعية من الأفلام الدعائية ستظل الوثائق السينمائية بمثابة خدمة مفيدة للمؤرخين.
ومع الوعي التام بتلك المشكلات والأخطار، هناك اتفاق مع أولئك الأنثروبولوجيين الذين يؤمنون بضرورة الإسراع بإنشاء أرشيفات ضخمة للأفلام الإثنوجرافية التسجيلية، ولتقديم مراكز للاستشارات السينمائية لدعم التفاهم المتبادل والاعتراف المتبادل بين المجتمعات الإنسانية.
حيث يجدون الأمل أن يؤدي ذلك إلى وقف اتجاه المجتمعات نحو الاستعمار الثقافي والديني والاقتصادي. وأن يؤدي ذلك أيضاً إلى دعم مواطن القوة وعناصر الثراء في كل ثقافة ولدى كل جماعة إنسانية. كما نعتقد أن تحقيق ذلك من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى التقليل تدريجياً من كل صور التعصب والعنصرية التي تعزل الجماعات البشرية وتفصلها عن بعضها البعض.
كما أننا سوف نحاول في السطور القليلة التالية أن نلقي بعض الضوء على العلاقة بين الفيلم الإثنوجرافي والأنثروبولوجيا الأكاديمية، وكذلك على أهمية توفير ودعم الإطار المؤسسي لهذا النوع من السينما. أما في المقال التالي فسوف نركز على تحليل بعض الإشكاليات والتحديات التي تواجه الفيلم الإثنوجرافي في الأنثروبولوجيا وأيضاً إمكانيات التصدي لها أو التخفيف منها أو حتى التغلب عليها.
الفيلم الإثنوجرافي والأنثروبولوجيا الأكاديمية:
ومع ذلك نعلم أن الفيلم الإثنوجرافي يثير من وجهة النظر الأنثروبولوجية الأكاديمية عديداً من التحفظات، التي يبلغ بعضها أحياناً حد المشكلات. حيث تدور إحدى بؤر هذا الجدل حول هوية الباحث الأنثروبولوجي وحقيقة المنهج الأنثروبولوجي الحق. فمهما برع المتخصص الأنثروبولوجي في استخدام مسجل الصوت والكاميرا لإنتاج فيلم إثنوجرافي، إلا أنه سوف تظل أداته الرئيسية هي الكراسة التي يسجل فيها ملاحظاته في الميدان عبر الأداة المنهجية الشهيرة المعروفة باسم “الملاحظة بالمشاركة”.
وكما تتمثل وجهة نظر المدافعين عن السينما الإثنوجرافية في أنه بقدر صعوبة استخدام الدراسة المتعمقة لحالات محدودة في بلوغ أحكام عامة، بواسطة الكلمات وحدها، فإن فن صناعة السينما أو الفيديو يعتبر أكثر صعوبة، وأيضاً أشد حاجة إلى الإبداع والفهم والخيال. ولكن هل يوجد فن أكثر صعوبة من فن الكتابة الأنثروبولوجية الحقة؟
فهو يمثل لبّ موضوع فن المونتاج، كما إنه يشبه أيضاً ترتيب الفقرات والفصول والبحث في عملية التدليل والإثبات المنطقي. حيث كل ذلك يشبه أيضا عملية الإخراج السينمائي، شأنه في ذلك شأن اختيار الكلمات، وأيضاً اختيار النظام الذي سنقول به الأشياء، ونقل الإحساس دون الكلمات، ودون التعبير عما لا يمكن قوله وما لا يمكن التعبير عنه والمفهوم ضمناً دون البوح به.
ومن المشكلات المحورية لهذا النوع من العمل الفني العلمي أن عملية المونتاج قد تعني تزييفاً للحقيقة. ولكن أصحاب هذا التخصص يردون: إذا كان المونتاج يمثل بالضرورة وفي كل الأحوال تزييفاً للحقيقة، فأين هي حقيقة الفيلم الإثنوجرافي؟
حيث يرد على ذلك جون روش في دراسته المنشورة في كتاب السينما الإثنوجرافية الذي ترجم حديثاً بأنه ما عدا بعض المكونات التي لها علاقة بالنص في مدة وجوده وتعيد تشكيل جانب من الحقيقة، فإن الجزء الباقي كله ينطوي ضمناً على عمليات القطع (الديكوباج والمونتاج)، ولكن بنفس الرغبة المؤكدة في قول الحقيقة.
ولكن هل هي الحقيقة التي تراها عين الكاميرا؟ إنها بالفعل حقيقة موضوعية؛ وذلك لأنها تصف لحظة معايشة عاشها بعض الناس فعلاً. ولكن أليست هي الحقيقة من وجهة نظر الذ يمسك الكاميرا؟ إن الصورة تعبر عن الآخرين عمن قام بالتقاطها وكذلك عن الفكرة السائدة عند الناس والأشخاص، في العصر الذي أخذت فيه الصورة. فهي تعبر وترمز عن وجودهم في العالم وعن علاقاتهم بالآخرين.
حيث إن السينمائي، سواء كان أنثروبولوجياً أو لم يكن كذلك، إنما يصور مشاهد ومواقف ملموسة وواقعية ومواقف يعيشها أشخاص. وذلك للتعبير عن نظم المجتمع ككل وعن وظيفته. كما يتطلب ذلك في كل الأحوال تحويل تلك المشاهد والمواقف إلى سيناريو. حيث لا يمكن تصوير نظرية معينة أو شيء مجرد ومحدد. إنما يتعين الخروج من النظرية ومن التصورات المسبقة، والدخول في المعاش، والملموس الحي.
حيث بمجرد قبول هذا التعبير الأساسي والمهم والضروري يمكن أن يتحقق الفيلم الإثنوجرافي الأنثروبولوجي الناجح والمميز الذي يعتمد على المونتاج وعلى البناء الدرامي لخلق حالة من التشويق. حيث بدون هذا التشويق لن تكون هناك رغبة في المعرفة أو في العلم، أو حتى في تعاطف الإنسان مع الإنسان.
حيث مع ذلك كله يجب الأخذ بنصيحة العالم ليفي شتراوس التي يقول فيها: “يجب أن نترك أنفسنا للمكان وللظروف، وأيضاً لكل ما هو موجود”. وهي نصيحة يجب أن يلتزم بها كل باحث أنثروبولوجي ويقوم على تنفيذها بكل سرور، سواء إنه كان يدون مادته البحثية عن طريق استخدام القلم أو باستخدام الكاميرا.