المفهوم السائد للجريمة المنظمة

اقرأ في هذا المقال


ما هي الجريمة المنظمة وكيف يمكن منعها، هما سؤالان من الأسئلة الرئيسية في كل من أبحاث الجريمة المنظمة والسياسة الجنائية، ومع ذلك وعلى الرغم من المحاولات العديدة فشلت أبحاث الجريمة المنظمة ونظام العدالة الجنائية والسياسة الجنائية في تقديم تعريف مفاهيمي مشترك ومعترف به للجريمة المنظمة، مما فتح الباب أمام تفسيرات سياسية، ويتم تقديم الجريمة المنظمة على أنّها حقيقة موضوعية -تستند في الغالب إلى الأدلة التجريبية القصصية والأوصاف العامة، وقد تم فهمها على أنّها مختلفة جوهريًا عن التنظيم الاجتماعي، وكان هذا مبررًا لمعاملة الجريمة المنظمة بشكل منفصل من الناحية المفاهيمية.

الصورة النمطية عن الجريمة المنظمة

في إطار المستويات الأربعة المحددة من التعقيد، يعني هذا أنّ الصور المهيمنة تتمحور حول الأفراد الذين ينتمون إلى أقليات عرقية معينة، والنموذج الأولي للمجرم المنظم هو الغريب الأجنبي، وفيما يتعلق بهيكل المنظمات الإجرامية تركز الصورة النمطية للجريمة المنظمة على المنظمات البيروقراطية على عكس الجماعات أو الشبكات غير الرسمية، وعلاوة على ذلك عادة ما يتم تصوير هذه المنظمات الإجرامية على أنّها متعددة الوظائف، ويقال إنّها مؤسسات غير مشروعة وجمعيات سرية في نفس الوقت.

بقدر ما يتعلق الأمر بهياكل الأسواق غير المشروعة والثقافات الفرعية الإجرامية ككل، فإنّ الفهم السائد للجريمة المنظمة يقوم على فكرة أنّها تميل إلى الاحتكار وأنّ جميع الجماعات الإجرامية تسعى جاهدة إلى احتكار مواقع على نطاق متزايد باستمرار، وأخيرًا تضع النظرة السائدة للجريمة المنظمة المنظمات الإجرامية في صراع جوهري مع المؤسسات القانونية للمجتمع، لا سيما فيما يتعلق بمفهوم المافيات العاملة عالميًا، بدلاً من التأكيد على الظروف الاجتماعية والسياسية الأساسية المؤدية إلى الجريمة المنظمة.

بأثر رجعي قد يبدو أنّ مفهوم المنظمات الإجرامية الاحتكارية المتجانسة عرقيًا قد هيمن باستمرار على فهم الجريمة المنظمة، وذلك منذ زمن رجال العصابات الإيطاليين الأمريكيين المشهورين في عصر الحظر مثل آل كابوني ولاكي لوتشيانو، ولكن هذا ليس هو الحال لا سيما فيما يتعلق بعشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

أسس تكوّن الجريمة المنظمة

يتكون واقع الجريمة المنظمة من عدد لا يحصى من الجوانب السرية والمتنوعة والمعقدة للكون الاجتماعي، ولا تقع بسهولة في مكانها لتشكيل كيان يسهل التعرف عليه، وبدلاً من ذلك يتطلب الأمر بناءًا معرفيًا ولغويًا حتى نتمكن من إدراك هذه الظواهر على أنها مترابطة، لذلك يبدو من المناسب استكشاف قضية مثل الجريمة المنظمة ليس فقط كمشكلة تجريبية، ويوفر استكشاف مفهوم الجريمة المنظمة وخاصة في بُعده التاريخي نظرة ثاقبة في اتساع وعمق وكذلك اختلافات وتناقضات المعاني المرتبطة بمصطلح الجريمة المنظمة، وينبهنا إلى بعض الجوانب الاجتماعية و العوامل السياسية التي قد تلعب دورًا في تشكيل التصورات حول الجريمة المنظمة.

نهج الجريمة المنظمة

بقدر ما يتعلق الأمر بمفاهيم أحادية البعد للجريمة المنظمة يمكن التمييز بين ثلاثة مناهج أساسية يمكن تصنيفها بالنشاط والتنظيم ونهج النظام على التوالي، حيث يربط نهج النشاط الجريمة المنظمة بأنواع معينة من النشاط الإجرامي، على سبيل المثال مع توفير السلع والخدمات غير المشروعة بغض النظر عن درجة تنظيم المتورطين في هذه الأنشطة وبغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والسياسي.

يركز نهج التنظيم على الكيانات التنظيمية بغض النظر عن نوع النشاط الإجرامي الذي يشاركون فيه، وبغض النظر عن موقعهم الاجتماعي والسياسي، وينظر نهج النظام إلى الجريمة المنظمة في جوهرها على أنّها حالة اجتماعية تكون فيها الهياكل الشرعية والإجرامية جزءًا لا يتجزأ من نظام اجتماعي وسياسي فاسد، بغض النظر عن أنواع الجريمة التي يتم الترويج لها أو درجة تنظيم أولئك الذين يدعمون النظام.

تميل المفاهيم متعددة الأبعاد إلى أنّ تستند إلى فهم مرتكز على المنظمة للجريمة المنظمة، ولكنها تتضمن معايير أخرى أيضًا، ويمكن التمييز بين المعايير المختلفة للمفاهيم متعددة الأبعاد باستخدام تصنيف من أربعة مستويات من التعقيد وهي:

1- الخصائص الفردية للمجرمين المنظمين.

2- الهياكل فعلى سبيل المثال الشبكات أو المجموعات التي ربط هؤلاء الأفراد.

3- هياكل السلطة الشاملة التي تخضع لهذه الكيانات الهيكلية.

4- أخيرًا العلاقة بين هذه الهياكل غير القانونية والهياكل القانونية للمجتمع.

مفهوم الجريمة المنظمة والتطور التاريخي للمفهوم

هناك بعض الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من تحليل التاريخ المفاهيمي للجريمة المنظمة، حيث بادئ ذي بدء أنّه نشأ مفهوم الجريمة المنظمة وتغييره بسبب عدد من العوامل التي تشكل حقيقة الجريمة أحدها فقط، وثانيًا لا يكتسب مفهوم الجريمة المنظمة قبولًا واسعًا إلّا إذا تم الجمع بين جانبين من ناحية مجموعة من الفئات التي يسهل فهمها مثل التصنيف الأجنبي والتنظيم البيروقراطي ومن ناحية أخرى فكرة الأهمية الوشيكة.

أمّا ثالثًا يتناقض مفهوم المافيا الأجنبية الذي يهيمن اليوم على التصور العام للجريمة المنظمة بمفهوم واسع جدًا للجريمة المنظمة في القوانين الجنائية والمبادئ التوجيهية لإنفاذ القانون، وهذا يوفر فرصًا للاستخدام المرن لمفهوم الجريمة المنظمة لاستيعاب المصالح السياسية والمؤسسية المختلفة، ورابعًا لا يمكن تفسير التاريخ المفاهيمي للجريمة المنظمة على أنّه عملية تنوير، حتى بعد عقود من النقاش لا يزال هناك قدر كبير من عدم اليقين والارتباك بشأن طبيعة الجريمة المنظمة.

لا يوفر تحليل التاريخ المفاهيمي وسيلة بديلة لتحديد الطبيعة الحقيقية للجريمة المنظمة، كما إنّه يعطي إجابة على السؤال: “ما هي الجريمة المنظمة؟” فقط بقدر ما نعتمد عبارة هوارد بيكر الشهيرة بالقول: “إنّ الجريمة المنظمة هي ما يسميه الناس”، وهذا تنوع معقد من الظواهر بمجرد أن ننظر إلى ما وراء واجهة الصور المبتذلة الشائعة للجريمة المنظمة.

يبدو أنّه لا يوجد حل سهل لمهمة التعامل مع موضوع الجريمة المنظمة، ومن المؤكد أنّ التعريف لن يساعد طالما لا يوجد فهم للروابط الجوهرية التي من المفترض أن تربط الجوانب المختلفة للكون الاجتماعي التي تندرج تحت تصنيف الجريمة المنظمة، وحتى ذلك الحين يجب أن تكون جميع محاولات تعريف الجريمة المنظمة تعسفية وستتعارض بطريقة أو بأخرى مع التصورات الحالية عن الجريمة المنظمة.

لكن يمكننا محاولة تحديد مفاهيم أضيق يمكن أن تساعدنا في البحث عن إجابات للأسئلة التي أثيرت في النقاش حول الجريمة المنظمة، وتتمحور هذه الأسئلة حول مسألتين وها:

1- كيف تظهر أنماط التعاون الإجرامي وكذلك كيف تتحول.

2- كيف تتطور مواقف السلطة داخل هذه الهياكل الإجرامية التي لا تتعلق فقط بالهياكل الإجرامية نفسها ولكن بالنسبة للمجتمع بشكل عام.

إذن مفهوم الجريمة المنظمة اليوم غير متجانس ومتناقض عندما نأخذ في الاعتبار النطاق الكامل للبيانات ذات الصلة في مناقشة السياسة الجنائية، ولكن عندما نركز على الصور التي تهيمن على التصور العام للجريمة المنظمة، يمكننا التأكد من وجود اتجاه نحو مساواة الجريمة المنظمة بالمنظمات الإجرامية المتجانسة عرقياً والمنظمة رسمياً والمتعددة الوظائف والاحتكارية التي تسعى جاهدة لتقويض وإخضاع المؤسسات القانونية للمجتمع.


شارك المقالة: