الملكة الفرعونية حتب حرس:
يقف زائر المتحف المصري مذهولاً أمام بعض آثار ميدوم مثل تمثال نفرت وزوجها رع حوتب الذي كان أحد أبناء سنفرو، أو أمام بعض رسوم مقبرة نفر ماعت وخاصة رسم أوز ميدوم، ولكن إعجابه يتضاعف عندما يقف في القاعة التي صفت فيها محتويات مقبرة الملكة حتب حرس زوجة سنفرو في المتحف المصري، ويرى في تلك القاعة حليها وسريرها المصفح بالذهب وكرسيها الكبير وخيمتها المتنقلة ذات الأعمدة المصفحة بالذهب.
ويرى محفتها كما يرى أيضاً بعض أدوات زينتها المصنوعة من الذهب أو النحاس. يقف الزائر حائراً موزع الإحساس، لا يدري بأيُهما يُعجب أكثر من الآخر هل يعجب بما وصل إليه المصريون القدماء من حضارة ورفاهيه في حياتهم الشخصية قبل (4600) عام، أم يعجب بالصانع المصري وتفوقه في ذلك العهد البعيد.
يحتوي مقبرة (حتب حرس)، على قصص لا تخلو من الطرافة. ففي عام (1926) عثرت بعثة هارفارد بوسطون الأمريكية على فوهة بئر أثناء حفائرها شرقي الهرم الأكبر في الجيزة ولم يكن لهذا البدر أي هيكل مشيد فوقه، وكان مملوءاً بالأحجار المرصوصة. فلما وصل المكتشفون إلى نهايته وجدوا مدخل الحجرة الجانبي مسدوداً بالأحجار المبنية وخلفه كدست محتويات المقبرة فوق بعضها. وكان فيها تابوت من المرمر وضع غطاؤه فوق صندوقه.
كان لقب الملكة حتب حرس ولقب زوجها سنفرو منقوشاً على كل الأثريات ولهذا شعروا الباحثون أنّ يكون جسدها داخل التابوت، فلما رفعوا غطاءه لم يجدوا فيه شيئاً. كان داخل الحجرة يدل على أنَّ وضع محتويات القبر تم في سرعة ودون ترتيب، بل أنَّ بعض الأشياء كان يرمى رمي فوق البعض الآخر، وها هو التابوت خال من الجثة، وزيادة على ذلك فأين هيكل المقبرة العلوي إنّ كان هذا المكان قد أعد ليكون المثوى الأبدي لزوجة سنفرو وأم خوفو؟ ولم يعد هناك شك في أنَّ سراً قديماً يختفي وراء ذلك. وتقدم (ريزنر)، رئيس تلك البعثة بتفسير مقبول.
كانت حتب حرس مكان دفنها في منطقة دهشور قريبة من هرم زوجها بالرغم من أنها عاشت إلى أيام ولدها خوفو الذي أراد منطقة الجيزة أنّ تكون جبانة ملك له، فضعفت العناية بمنطقة دهشور. وبعد دفنها بقليل تمكن بعض اللصوص من الوصول إلى المقبرة وأخذوا ما استطاعوا أخذه من الحلى إن كان هناك شيء آخر غير ما عثر عليه المكتشفون في أحد الصناديق.
وأخذوا معهم جثة الملكة وكل ما تملك من حلي أخرى كما جرت العادة. فلما اكتشف الحراس حقيقة ما حدث رأى المسئولون ألا يتركوا القبر في مكانه بعد ذلك ونقلوا كل شيء إلى الجيزة وقطعوا إلى جانب طريق المعبد الجنازي الذي كانوا يعملون فيه إذ ذلك البكر العميق وكدسوا فيه ما بقي من محتويات المقبرة.
ويعتقد الباحثون المقبرة أنَّ انتقال التابوت ووضع غطائه فوقه دليل على أنهم أخفوا على (خوفو)، حقيقة ما حدث من أخذ اللصوص لجثتها. ولم يعثر حتى الآن في دهشور أو في ميدوم أو في الجيزة على أي قبر أو بقايا من قبر يمكن أن ننسبه إلى هذه الملكة حتى نقول ونحن واثقون إنها كانت مدفونة فيه.
ذكرى الملك سنفرو:
لم يكن سنفرو ملك عظيم محب للبناء فحسب، بل كان شخص محبوب ممن حوله، عادل بين رعيته، وقد تأثروا المصريين بعد وفاته بأكثر من ستمائة عام، ونعرف أيضاً أنَّ بعض ملوك الأسرة الثانية عشرة اختاروا منطقة دهشور بالذات ليشيدوا فيها أهرامهم ليكونوا على مقربة منه، تيمُناً بقداسة المنطقة.
ولكن الأمر الذي يُلفت النظر هو ما كانت تكتبه الأحداث التالية عنه، إذ قلما كان يرد اسمه في أحد النصوص إلا وكانوا يشفعونه بعض الأوصاف التي لم يكن يستخدمونها عند الإشارة إلى أي ملك أخر من ملوك الدولة القديمة مثل قولهم عنه (الرحيم)، الملك المحسن المحبوب.
ونقرأ عنه في بردية وستكار التي كتبت بعدما يقرب من سبعمائة سنة بعد وفاته قصص أظهر فيها كاتبها على إظهار وداعة أخلاقه وحلمه وعطفه على من حوله، واستخدامه أرق الألفاظ عند الحديث معهم. وحَكَمَ سنفرو أربعة وعشرين عاماً، وكان أبناؤه يتولون جميع المناصب الهامة في البلاد، سواء في العاصمة أو في الأقاليم، فلما جاء اليوم الذي ترك فيه أمور مصر إلى ابنه خوفو، ترك له عرشاً ثابت الأركان، وبلداً غنياً منظم الإدارة وترك له أيضاً موظفين مدربين، وفنانين اكتملت خبرتهم.
الملك الفرعوني خوفو:
لم يعد الآن أي شك في أنَّ خوفو كان أحد أبناء سنفرو من زوجته الأولى الملكة (حتب حرس)، وبالرغم من ذلك فما زال بعض المشتغلين بالتاريخ يرددون ما كتبه برستد منذ أكثر من خمسين سنة عن اعتقاده بأن خوفو كان زعيماً من إقليم المنيا استناداً إلى وجود بلد باسم (منعت خوفو)، أي مربية خوفو، ولكن الحقيقة الثابتة الآن في ضوء ما جد لدينا من معلومات أنَّ (منعت خوفو)، ليست إلا إحدى الضياع التي ورثها عن أبيه وكانت تُسمى (منعت سنفرو)، فغير اسمها إلى (منعت خوفو)، أما عن اسمه فقد فضلت اتباع النطق القديم بالرغم من أنَّ نطقه الأصح هوه (خوفو وي)، وهو اختصار لاسمه الكامل (خنوم خوفو وي)، وذلك لاعتياد قراء العربية عليه منذ أجيال كثيرة.
حكم خوفو عرش مصر وحصد ثمار إصلاحات أبيه، تم أخذ فكرة عن انجازاته المختلفة السياسة الإنشائية التي وضع سنفرو أساسها فقد بقيت صامدة، فقد عثر على اسمه في كثير من بلاد مصر سواء في الدلتا أو في الصعيد، كما أرسل أيضاً حملات إلى جبل المغارة لإحضار الفيروز وربما النحاس من هناك.
وكانت أعمال التجارة مصر الخارجية، وبشكل خاص مع الشاطىء الفينيقي مزدهرة، ومن المُرجح جد أنه كانت تُقيم في مدينة جبيل (إلى الشمال من بيروت الحالية)، جالية مصر للتجارة منذ أيام الأسرة الثانية، واهتم سنفرو بتشييد سفنه من أخشاب الـ (مرو)، ومن خشب الأرز، واستخدمه في مبانيه ولكن منذ عهد خوفو على الأقل قام في وسط (جبيل)، معبد مصري أضاف إليه من جاء بعهد، حيث عثر على أحجار منه تحمل اسمه وأسماءهم.
ولكن هذه الإنجازات المختلفة لم تكن هي السبب في تخليد اسمه في التاريخ على مدى الأجيال بل كان السبب في ذلك هرمه الذي شيده على هضبة الجيزة، وهو المعروف باسم الهرم الأكبر، والذي ما زال شامخاً سليم البنيان يتحدى الزمن ويغالبه، ينتزع إعجابنا اليوم كما انتزع إعجاب الشعوب القديمة جميعاً. ويعترف الناس اليوم كما اعترفوا بالأمس بأنه ليس واحداً من عجائب الدنيا السبع وحسب بل هو عجيبة العجائب، لأنها زالت وبقي وحده على مر الأجيال.