المهتدي بالله محمد بن هارون الواثق بالله

اقرأ في هذا المقال


المُهتدي بالله محمد بن هارون الواثق:

هو محمد بن هارون الواثق أي ابن عمّ المُعتزّ ووالدته أم ولد تُسمى (وردة)، وقد أُنشئ بسامراء عام (209 هجري)، أيام خلافة جدّه المعتصم، يُكنى أبا إسحاق وقيل: أبا عبد الله. كان أسمر رقيق، مليح الوجه، ورعا، متعبّداً، عادلاً، بطلاً قوياً في أمر الله، شجاعاً، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً.

مُبايعة الخليفة المُهتدي:

مكث في بغداد إذ قام بإبعاده ابن عمه المُعتزّ من سامراء، فلما غضب القادة العسكريون على المُعتزّ أحضروا المهتدي من بغداد، وأرادوا بيعته فرفض بيعة أحدٍ حتى أُتي بالمعتزّ، فقام له المهتدي وسلم عليه بالخلافة، وجلس بين يديه فجيء بالشهود فشهدوا على المعتزّ أنه عاجز عن الخلافة، فاعترف بذلك ومدَّ يده فبايع المهتدي، فارتفع حينئذٍ المُهتدي إلى صدر المجلس، وكان ذلك لليلة بقيت من رجب سنة (255 هجري).

وعندما قام بأخذ المهتدي من بغداد إلى سامراء لمُبايعته بولاية الخلافة لم يعلموا أهل بغداد سبب ذلك إلا أنهم قد عُرفوا استبداد القادة العسكريين بالأمر، وضعف المُعتزّ فقاموا بأعمال الشغب، وساروا إلى أمير الشرطة سليمان بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا ببيعة أحمد بن المتوكل أخي المعتز خليفة، إذ لم يدروا ما حدث في سامراء فلما علموا ببيعة المهتدي سكنوا وسكتوا.

وظهرت قبيحة أم المعتز في شهر رمضان، وقد كانت فيما مضى قامت بتخفّي نفسها عند صالح بن وصيف عدو ولدها، وكانت من قبل تملك أموالاً كثيرة وتجمع جواهر ثمينة، فتسلّط عليها صالح بن وصيف وأخفاها عنده، ولما طلب ولدها المعتزّ خمسين ألفاً ليُعطيها للعسكريين أظهرت الفقر والحاجة، وقتل صالح بن وصيف ولدها، وسطا على أموالها.

ثم التفت إلى الوزير أحمد بن إسرائيل فقام ببنزع أمواله منه وضربه حتى مات، وإلى عيسى بن إبراهيم كاتب قبيحة فضربه وأهانه حتى دله على كل ما تخبئه قبيحة، ثم مات بالعذاب، واستبد صالح بن وصيف كثيراً وطغى، ولم يستطع الخليفة أن يفعل شيئاً معه، ولم تكن أعماله ليرضى عنها. كان موسى بن بغا في قزوين يُقاتل الحسين بن أحمد المعروف بالكوكبي، وقد هزمه، لحق الكوكبي ببلاد الديلم فأراد موسى مطاردته غير أن الخليفة استدعى موسى ليتقوّى به على صالح بن وصيف.

وكان موسى قد غضب من صالح لاستكثاره بأموال قبيحة، وقتله المعتز، وزواجه من أم المعتز، وتصرفاته. ولما وصل موسى إلى سامراء طلب الإذن من المهتدي فلم يأذن له لأنه كان جالساً في دارالعدل، فهجم بمن معه عليه، وأقاموه من مجلسه، وحملوه على فرس ضعيفةٍ، وانتهبوا القصر، وأدخلوا المهتدي إلى دار أخرى وهو يقول: يا موسى اتق الله، ويحك! ما تريد؟.

فقال موسى: والله ما نريد إلا خيراً فأخذ موثق لنا أنك لن تقف مع صالح بن وصيف، فقام بالحلفان لهم وأخذ موثق منهم، فقاموا بمُبايعته حينئذٍ. وطلب موسى بن بغا بن وصيف ليناظروه فيما قام به من أعمال وما أخذ من أموال فاختفى. وطلبهم المهتدي للصلح عسى أن ينصرفوا للمصلحة العامة بدلاً من الخلاف بينهما والعمل كل لمصلحته، فاتهمه موسى ومن معه من القادة أنه يعرف مكان صالح، وتكلموا وحاولوا التهديد فخرج إليهم المُهتدي من الغد مُتقلداً بسيفه.

وقال لهم: قد أعلمني شأنكم، ولستُ كمن قام بدفعي مثل المستعين، والمُعتز، والله ما وصلت إليكم إلا وأنا ثابت، وقد أوصيت، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسكت قائمته بيدي، أما دين، أما حياء، أما دعة؟ لِمَ يكون الخلاف على الخلفاء والجرأة على الله؟ ثم قال: ما أعلم علم صالح، فرضوا، وانفضوا.

وأعلن موسى أن يعطي عشرة آلاف دينار لمن يأتي بصالح، فلم يظفر ثم وجد وقُتل. وغضب المهتدي من هذه الأفعال التي لا يستطيع أن يُقاومها، ولم يأخذ قائد رأيه فيما يقوم به، فليس قتل القائد بالأمر السهل وليست هذه الاعتداءات بالذي يرضى عنه، وفكر الخليفة بأن يتخلص من
كبار العسكريين الذين يستبدون بالناس وبالحكم، وذلك بأن يضرب أحدهم بالآخر.

الأحداث التي جرت بعد مُبايعة الخليفة المُهتدي:

وذهب موسى بن بغا ورافقه (بايكباك)، ومفلح لمُحاربة الخارجي مساور بن عبد الحميد، فكتب الخليفة المهتدي إلى القائد (بايكباك)، أن يقتل موسى بن بغا، ومفلح القائد التركي الآخر، وأن يتولى هو قيادة الترك جميعهم غير أن (بايكباك)، قد أطلع موسى بن بغا على الكتاب، وفهم القادة العسكريون أن الخليفة يريد القضاء عليهم، واحداً إثر واحد فساروا إليه فقاومهم بمن معه غير أنه هرم وقتل في منتصف رجب من عام (256 هجري).

فكانت خلافته أقل من سنةٍ بخمسة عشر يوماً. ولما قام العسكريون على الخليفة ثارت العامة تؤيد المهتدي، وكتبوا رُقاعاً وألقوها في المساجد: يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المُضاهي لعمر بن عبد العزيز أن ينصره الله على عدوه، وقتل أيضاً بايكباك إذ دخل على الخليفة مُظهراً الطاعة فقتله الخليفة وألقى رأسه إلى الأتراك، فأرهبهم واجتمعوا حول أخي بايكباك. وبعد قتل المهتدي انطلق العسكريون إلى أحمد بن المتوكل وأخرجوه من السجن وبايعوه خليفةَ باسم المعتمد على الله.

مع هذه حالات الفوضى والدمار التي عمّت بسبب تسلط القادة العسكريين واستبدادهم، وعدم إمكانية أحد للوقوف في وجههم ما داموا يملكون القوة من الجند الذين يطيعونهم بسبب ما يقدمون لهم من بعض الأعطيات بعد السلب والنهب الذي يقومون به. وهذا ما حرّك في نفوس الطامعين القيام بحركات أو الثورة على السلطة الشرعية.

حركة الزنج وأهم مُجرياتِها وأحداثها في عهد المُهتدي:

لم يجدوا هؤلاء الطامعون حلاً من تشويه النسب هاشمي حيث يُمكن أن يجتمع حوله أُناس كثيرون من ناقمين على السلطة أو حاقدين على الأوضاع القائمة الاجتماعية والاقتصادية أو مستغلّين فرص الفوضى للقيام بالسلب والاعتداء على الحرمات، ولعل أخطر حركة قامت في هذه الآونة هي حركة الزنج، وصاحبها هو علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس، وهو أجير من الأجراء.

ووالدته أسمُها قره بنت علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة، وهي من قريةٍ من قُرى الريّ يقال لها: (ورزنين)، وفيها ولد وبها نشأ. ويقول عن نفسه أن جده (لأمّه) محمد بن حكيم من أهل الكوفة وكان أحد الذين خرجوا على هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلما قتل زيد هرب جده محمد بن حكيم فلحق بالريّ، ولجأ إلى (ورزنين)، فأقام بها.

وأما جده من جهة (لأبيه) عبد الرحيم فهو من بني عبد القيس وأُنشئ في (الطالقان)، من أعمال خراسان، وانتقل إلى العراق وأقام بها، واشترى جارية سنديّةً، فأولدها أباه مُحمداً، ويّفهم من هذا الكلام أن مُحمداً أباه قد انتقل إلى (ورزنين)، وتزوج قرة بنت علي فولد هو، فهو من بنى عبد القيس.

وكان أجيراً حاقداً صاحب أطماع، وعنده إمكانات التلوّن. انتقل علي بن محمد العبدي هذا إلى البحرين فظهر فيها عام (249 هجري)، وادّعى أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسين بن عبد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس في (هجر)، إلى طاعته فأيّدته جماعة، وخالفته أُخرى فحدث قتال بين الطرفين بسببه فتحول من تبعه عنه فخرج من هجر والتجأ إلى حيّ من بني تميم بالإحساء، ومشت معه فئة، وأبغضته ثانية فاقتتلوا من أجله.

ووقع عدد كبير من القتلى بينهم فتنكر له من سار معه في البداية، فسار إلى البادية، وادّعى هناك أنه أبو الحسين يحيى بن عمر الذي خرج بالكوفة وقتل، فنصره أقوام وقاتل بهم خصومهم فقتل منهم عدد كبير فازورّوا عنه، فاتجه ببصره إلي البصرة فسار نحوها عام (254 هجري)، وزعم هناك أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب.

وأراد أن يكون في انضمامه إلى بعض فتاتها فلم يقدر فانتقل إلى بغداد، وأقام بها ما يقرب من سنة، ثم عاد إلى البصرة في رمضان من عام (255 هجري)، وأقام بظاهرها، واجتمع إليه الزنج الذين يعملون في الأرض لساداتهم، فيشقون ويعيش الملاك على أتعابهم ولا يعاملونهم المعاملة الطيبة التي أمر بها الإسلام، الأمر الذي نشأ عندهم حقد عليهم استغله هذا الدعيّ، فحرّضهم عليهم ومنّاهم الأماني فتركوا أعمالهم، والتفوا حوله، وبدأ بأعمال النهب والتعدّيات، ويقدّم لهم بما يأتون به من هذه الأعمال اللصوصية.

وظهرت جيوش الدولة وخرجت فبدأ بالحرب عليها وانتصر، إذ كانت في شغلٍ شاغل بين القادة العسكريين والخليفة، وبينهم بعضهم مع بعض، وبين الدولة والحركات المناوئة في طبرستان، وقزوين، وما كان يربحه من هذه المعارك يُجهّز به جماعته ويقرّيهم، ثم تمكن من دخول الأُبُلّة وعبادان.

فدخل الأولى لخمس بقين من شهر رجب من عام (256 هجري)، فقتل عدداً كبيراً من أهلها وحرقها فخاف أهل عبادان من ذلك ودخل الرعب إلى قلوبهم فاستسلموا للزنج الذين دخلوا مدينتهم. ثم انتقل الزنج إلى الأهواز فدخلوها وفعلوا بأهلها الأفاعيل، ولم ينتصف شهر رمضان من ذلك العام.


شارك المقالة: