بناء العاصمة بغداد في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


بناء العاصمة بغداد:

فرضت الأوضاع السياسية التي واكبت قيام الدولة العباسية على الخليفة العباسي الأول أبي العباس أن لا يتخذ من دمشق عاصمة له وإنما آثر أن يكون العراق مقراً للدولة لأسباب عديدة منها أن دمشق أموية تدين بالولاء للأمويين، ثم إنها بعيدة عن خراسان أحد مراكز أنصار الدعوة العباسية، كما أنها قريبة من حدود الدولة البيزنطية مما يجعلها دائماً في مواجهة غارات البيزنطيين، لذا فقد اقتضى الأمر اتخاذ قاعدة أكثر قرباً من خراسان، وتبعد عن الشام مركز العصبيات العربية التي اعتمد عليها الأمويين.

ومن الجدير بالذكر أن العراق (وهو الآخر أحد مراكز الدعوة العباسية)، كان الموطن الأصلي للقبائل العربية التي استوطنت في خراسان فغالبية العرب من أهل خراسان كانوا قد نزحوا إليها من العراق على شكل دفعات متوالية ابتداءً من عصر الفتوحات الإسلامية، حيث يشير ابن المقفع صراحة إلى أصل أهل خراسان العربي من أهل العراق وارتباطهم المتين بأهل الكوفة والبصرة.

وفي رواية للأزدي أنَّ أبا جعفر كان قد أشار على أخيه أبي العباس وهما في طريقهما من الحميمة إلى الكوفة، بأنه لو قدر لهم النجاح والمجيء إلى الحكم فإنهم سوف ينقلون مركز حكمهم وأتباعهم وأنصارهم إلى العراق، من ذلك يتبين أن العباسيين كانوا قد فكروا وقبيل انتصارهم بنقل مركز حُكمهم إلى العراق.

الدوافع الرئيسية لتفضيل العباسيين للعراق:

ومن أهم الدوافع الرئيسية التي شجعت العباسيين بتفضيل العراق على غيره من الأقاليم العربية والإسلامية فيعود إلى أنَّ العراق هو الإقليم العربي الأكثر ملاءمة لأن يكون مركز الدولة الذي يجمع إدارات الحكم وأجهزة الإدارة والجيش خاصة وأنَّ العراق هو مصدر القبائل العربية التي هاجرت إلى خراسان، وثارت على الأمويين وأنهت خلافتهم، وأكثر من ذلك أنهم رأوا أنَّ التحول إلى العراق ضرورة سياسية واقتصادية، إذ أنَّ العراق منذ العصور التاريخية القديمة، كان مركز الحضارة ومواطن الدول القوية مثل السومريين والأكديين والبابليين والآشرويين، إضافة إلى غنى العراق وتقدم اقتصاده وتجارته وزراعته، مقارنة بالشام في تلك المدة.

لقد كان موضوع اختيار عاصمة جديدة بالنسبة للخليفة العباسي الأول أبي العباس من الأمور المهمة التي شغلت باله في أول عهد الدولة العباسية وسوف نلاحظ أن الخليفة الأول قد تنقل بين عدة مراكز والظاهر أنه لم يستطع حسم أمر اختيار عاصمة لدولته حسماً نهايئاً، وكان لقصر خلافته أثر كبير في ذلك.

فعندما تم النصر للجيوش العباسية في العراق بعد هزيمة يزيد بن هبيرة دخل الجيش العباسي مدينة الكوفة، ثم جاء أبو العباس فنزل أول الأمر الكوفة وفيها تمث مبايعته، وقد ألقى خطبته السياسية المشهورة في مسجد الكوفة، وبعد أن ألقى خطبته نزل في حمام أعين بضواحي الكوفة في معسكر أبي سلمة الخلال، واتخذه مقراً له ولجنده وقد أقام فيه أشهراً.

ويبدو أن الخليفة أبا العباس أعرض عن الكوفة وآثر أن يعيش بين جنده في معسكر حمام أعين وذلك لأنه عاصر الدعوة العباسية بطورها السري والعلني، واكتسب مع مرور السنين معرفة بالنوايا الحسنة والسيئة لأهل الكوفة، كل هذه الأمور جعلته يدرك بأن الكوفة تشكل مصدر خط ر على السلطة العباسية لأنها ذات ميول علوية، وأن عواطف غالبية سكانها ليست مع العباسيين.

ازدهار العاصمة بغداد في عهد أبي العباس:

بدأ أبو العباس بتأسيس مدينة لاتخاذها عاصمة جديدة له، وقد اختار نفس المكان الذي كان أمير العراق الأموي يزيد بن هبيرة قد بنى فيه مدينة، وقد سمى الخليفة العباسي المدينة الجديدة بـ (الهاشمية)، ولم يمكث أبو العباس كثيراً في هذه المدينة إذ يذكر البلاذري بأن الخليفة أبا العباس قد ضاق ذرعاً بالتسمية التي انتشرت بين الناس إذ استمروا على تسميتها القديمة مدينة ابن هبيرة، وهذا ما أزعج الخليفة أبو العباس وجعله يقول: (ما أرى ذكر ابن هبيرة يسقط عنها فرفضها).

واضطر أبو العباس إلى تركها وبنى حيالها مكاناً في ضواحي الكوفة أيضاً سماه (الهاشمية)، والتي تعرف بـ (هاشمية الكوفة) وكان ذلك عام (132 هجري)، ثم تحول من الهاشمية إلى الحيرة، ولكن يبدو أن الحيرة لم تكن إلا مكاناً مؤقتأ نزل به العباسيون ليفكروا في اختيار عاصمة دائمة بحيث تكون أكثر صلاحية وأمن مقاماً من الكوفة، إذ أجمعت الروايات التاريخية على أنه بعد مدة من الوقت وبالتحديد في سنة (134 هجري)،‏ أنتقل أبو العباس من الحيرة إلى الأنبار وهي مدينة تقع على الفرات في غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ ويشير إلى ذلك الدينوري بقوله: (إن الخليفة أبا العباس استطاب الأنبار فابتنى بها مدينة بأعلى المدينة عظيمة لنفسه وجموعه وقسمها خططاً بين أصحابه من أهل خراسان، فبنى لنفسه في وسطها قصراً عالياً.  وأقام في تلك المدينة طيلة مدة خلافته.

ولم يشر الدينوري إلى اسم تلك المدينة في حين أشار إلى اسمها اليعقوبية فقال عن أبي العباس أنه انتقل إلى الأنبار فبنى له مدينة على شاطئ الفرات سماها (الهاشمية)، وقد أتفق مع اليعقوبي عدد من المؤرخين الرواد على تلك التسمية. ويذكر الدكتور طاهر العميد أنَّ السبب الذي جعل الخليفة أبو العباس يطلق اسم الهاشمية على جميع المدن التي شيدها هو حرص الخليفة أبي العباس على تخليد البيت الهاشمي، وتأكيده على حب هذا البيت وطاعته أثراً في إطلاقه ذلك الاسم على جميع تلك المذن.

وقد بقي الخليفة أبو العباس طيلة مدة خلافته في الأنبار حتى توفي فيها، وتشير المصادر التاريخية إلى أن الخليفة أبا العباس بنى في الأنبار قصوراً، ومباني، وقد بقيت آثارها بعد وفاته، كما أنه عوض أصحاب الأراضي التي استملكها في الأنبار أموالاً تُعادل أقيامها. كان للحركة المسلحة التي قام بها الرواندية في هاشمية الكوفة ضد الخليفة المنصور، السبب المباشر في التفكير في الانتقال من الكوفة وبناء عاصمة جديدة، يتوفر فيها الأمان، وبعد دراسة دقيقة قرر أنّ يختار عاصمته في بغداد.

موقع ومواصفات العاصمة بغداد:

تقع بغداد في منطقة خصبة تتوافر فيها وسائل الإرواء من نهر دجلة ومن الترع التي تستمد مياهها من دجلة والفرات فتسقي الأراضي والمزارع، ثم تصُب الماء الزائد في دجلة، وتوفر هذه الأنهار والترع وسائل للمواصلات مع كافة الأقاليم المحيطة بمختلف جهات العراق كما أن شبكة الأنهار والترع تؤمن وسائل دفاعية تقف بوجه الجيوش التي تتقدم لتهديد العاصمة ولا يخفى أن موقع بغداد كان بعيداً عن حدود الدولة البيزنطية التي كانت أقوى دولة تناصب الدولة العباسية العداء ولذلك فإنها كانث في موقع أمين.

وقد أراد المنصور من تأسيس بغداد أن يتخذ مركزاً إدارياً وعسكرياً له ولأتباعه الذين يعتمد عليهم في حكم الدولة، بعد أن قضى على الفتن والشورات الكبرى التي كانت تهدد حكمه، وانصرف إلى تنظيم إدارة الدوالة وتأمين الازدهار الاقتصادي والفكري، وتقرير السياسة التي تسير عليها الدولة الجديدة.

بدأ أبو جعفر المنصور بتأسيس عاصمته الجديدة في سنة (145 هجري)، وانتقل إليها في سنة (149 هجري)، وقد سماها مدينة السلام، غير أن الناس ظلوا يُسمونها بغداد وهو اسم قديم للرقعة التي أنشئت بغداد فيها، وكانت العاصمة الجديدة لمّا أنشئت تضم العناصر المؤيدة لأبي جعفر والذين لا يعادونه ولا يهددونه.

وقد جعل المنصور مدينته مدورة وأحاطها بخندق وسورين ضخمين بينهما فسحة من الأرض، وجعل لها أربعة أبواب متقابلة، وعند كل باب دهليز وعليه قبة ضخمة، وأنشأ في وسطها قصراً فخماً له إيوان كبير وعليه قبة خضراء عالية، ويلاصق هذا القصر مسجد جامع واسع وعدد من الدواوين، ويحيط بهذه الأبنية رحبة، وبين الرحبة والأسوار تمتد دروب كثيرة مستقيمة تقع عليها طاقات وحوانيت، وزع على حرسه قطائع ليبنوا عليها بيوتهم، ثم مد إليها قناتين تأخذ أحدهما ماءها من نهر الدجيل الذي يقع في شمال المدينة، وتأخذ الثانية من نهر كرخايا الواقع في جنوبي المدينة، وكانت كل قناة منهما تدخل المدينة وتنفذ في شوارع والدروب ويجري فيها الماء صيفاً وشتاء دون انقطاع.

لقد كانت مدينة المنصور صغيرة المساحة، إذ لم يتجاوز قطرها نصف كيلومتر، كما أن رقعتها كانت محصورة بالأسوار الضخمة والخنادق التي تحد من توسعها، لذلك أقطع المنصور حاشيته وأتباعه وجيشه الأراضي التي حول المدينة المدورة، ففي الأطراف الشرقية، وهي شقة ضيقة من الأراضي محصورة بينها وبين دجلة، أقطع أولاده قطائع شيدوا لهم فيها قصورأ، كما أنَّ المنصور بنى له هناك قصر الخلد، أما الأراضي الواقعة في جنوب المدينة المدورة أو المحصورة بينها وبين الصراة، فقد وزعها على عدد من رجال الأسرة العباسية، وأصحابه، وهم رجال استقدمهم من الأنبار والبصرة والكوفة والأحواز، أما الأطراف الغربية والشمالية من المدينة المدورة فقد أوطنها الجماعات العربية التي جاءت من خراسان وبلاد ما وراء النهر، وجعل في كل ربع سوقاً فيه حوانيت للسلع التي يحتاجها السكان من منطقتهم.

ولمّا تم تأسيس مدينة المنصور ازدهرت فيها الحياة الاقتصادية وهاجر إليها من مختلف الجهات عدد كبير من الناس لممارسة نشاطهم الاقتصادي، وكان هدفهم الرئيس هو التجارة والربح وقد هدد تزايدهم بتبديل الطابع العسكري والإداري الصارم الذي أراده المنصور لمدينته كما أنهم أصبحوا على مر الأيام خطراً يهدد الأمن في المدينة المدورة، وقد شعر المنصور بهذه الأخطار، فأمر في سنة (157 هجري)، بنقل الأسواق إلى الكرخ التي تقفع جنوب المدينة المدورة، وقد نمت الكرخ بسرعة كبيرة وكثرت أسواقها وازداد سكانها وصارت من أغنى وأكبر المحلات ببغداد، كما أصبحت من أهم مراكز الحركة الفكرية حيث استوطنها عدد كبير من العلماء.

أما الرصافة فقد بناها المنصور في الجانب الشرقي من دجلة، في سنة (151 هجري)، بعد وصول المهدي إلى بغداد مع جيشه، وقد أحاطها بسور وخندق وجعل لها ميداناً وبستاناً، وأجرى لها الماء وبنى المهدي فيها قصراً، كما أعطى عدداً من كبار رجال الأسرة العباسية أراضي شيدوا لهم فيها قصوراً، وجعل فيها عدة أسواق، وقد نمت الرصافة وازدهرت ولكنها لم تصل في عمرانها المستوى الذي وصله الجانب الغربي وخاصة الكرخ.

لقد نمت بغداد بسرعة وأصبحت من أعظم مراكز الحية الاقتصادية، فازداد إقبال الناس على الاستيطان فيها والمساهمة في النشاط الاقتصادي فيها، فزادت ثروتها وتقدمت فيها الحضارة، وتقاطر إليها العلماء والمفكرون حتى صارت حاضرة الدنيا وأعظم المدن العربية الإسلامية ورمز عز العباسيين وعظمة دولتهم.


شارك المقالة: