مفهوم الراوندية ومواجهات الخليفة أبو جعفر المنصور

اقرأ في هذا المقال


تمرد الراوندية:

بعد تأسيس الخلافة العباسية عام (132 هجري)،‏ أعلن الخليفة أبو العباس في خطبته التي ألقاها في الكوفة أنّ الدولة سوف تسير على كتاب الله وسنة رسوله، كما هاجم الغلو والتطرف في العقيدة من أي جهة كان ناعتاً إياه بالسبئية.

إذ قال: (وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والخلافة منا فشاهت وجوههم بم ولم أيها الناس). فكان أول رد فعل هو تمرد الرواندية فرقة ظهرت على هامش الدعوة العباسية في بلاد فارس والعراق، واشتد نشاطها، وكان أخطر أساليبهم للتسلل هو ترويج المعتقدات الفارسية القائلة بانتقال الروح من شخص لآخر، مدعين أن الروح الإلهية حلت في عدة أشخاص وانتقلت أخيراً إلى أبي مسلم الخرساني.

لقد انقسمت الراوندية إلى عدة فرق وسُميت بمُسميات عديدة منهم من استمر في ولائه وطاعته للعباسيين وهولاء هم (العباسية)، ومنهم من تحرك ضد العباسيين ونقلوا ولاءهم لغيرهم، من هؤلاء فرقة ظهرت في خراسان في أوائل عهد الخليفة أبي العباس، إلا أنَّ أبا مسلم الخراساني استطاع القضاء على حركتهم. وهناك خبر ذكره الطبري يدل على أن جماعة من الراوندية وقفت إلى جانب زياد بن صالح الذي خرج عن طاعة الخليفة أبي العباس سنة (135 هجري)، مما دفع أبو مسلم الخراساني الذي كان يهدف إلى تثبيت مكانته في الدولة العباسية إلى تتبعهم وقتلهم.

ومن فرق الراوندية، فرقة (الرواندية الخلص) الذين كانوا من أوائل من انضموا إلى الدعوة العباسية، إذ انقسمت هذه الفرقة بعد وفاة الخليفة أبي العباس إلى ثلاث فرق:

‎1. فرقة اعتقدت بإمامة أبي العباس ثم أبي جعفر وبعده المهدي.

2. فرقة نقلت الإمامة من أبي العباس إلى أبي مسلم وانقسمت هذه الفرقة ‏إلى شعبتين:

أ. الأبو مسلمية: وهؤلاء أكدوا أنّ أبا مسلم لم يمت وأنه حي تجسدت فيه روح الإله، وأنه نبي زرادشت وزعموا أنه سوف يعودإلى الحياة الدنيا.

ب. الرزامية: نسبة إلى زعيمهم رزام بن سابق، اعتقد هؤلاء بموت أبي مسلم، وأفرطوا في موالاته، ونسبوا إليه المعجزات والخوارق.

3. الفرقة التي أسسها عبد الله الراوندي وتعد أخطر فرق الراوندية، وهؤلاء جعلوا أبا جعفر المنصور إلهاً وأنَّ أبا مسلم نبيه، وزعموا أن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور. وبعد وفاة الخليفة أبي العباس استمر الراوندية الغلاة في نشاطهم وراء الخليفة الجديد أبي جعفر المنصور، إذ تفرعت من فرق الراوندية الحركات الدينية السياسية التي انتشرت خلال العصر العباسي الأول في بلاد فارس والتي سُميث بالخرمية، إلا أنَّ السلطة العباسية استطاعت أن تسحقها وتتخلص من خطرها.

مواجهة الخليفة ضد عبد الله بن علي العباسي:

يعد عبد الله بن علي من أبرز الشخصيات العسكرية والسياسية، فقد تولى قيادة الجيش العباسي الذي انتصر على مروان بن محمد في معركة الزاب وجاء تعيينه والياً على الشام بسبب قيامه بتشتيت الجبهة الأموية في الشام من جهة ولملاحقته مروان بعد انهزامه من الجهة الأخرى، فضلاً عن قيامه بتثبيت حكم العباسيين في بلاد الشام طيلة السنوات الأولى من الحكم العباسي، فهو الذي قام بتصفية الأمويين وأتباعهم في الشام، لذلك فليس من المستغرب أن يكون عبد الله بن علي طموحاً في الوقت الذي يشرف على جيش خراساني قوي ومعه قواد يؤيدوه رغبة أو رهبة، فما إن وصلته الأخبار عن موت الخليفة أبي العباس عام (136 هجري)، وتعيين أبي جعفر المنصور بدله، امتعض وأعلن نفسه خليفة، وادعى بأنَّ أبا العباس كان وعده بالخلافة حين أرسله لتعقب مروان بن محمد والقضاء عليه.

ولا بد من الإشارة بأن الروايات التاريخية لا تؤيد ادعاءه، وإنما اتخذ ذلك مُبرراً لتحقيق طموحاته الشخصية، في حين أنَّ أغلب العباسيين عبروا عن مخاوفهم من طموحاته. لقد استغل أهل الشام والجزيرة التصدع الذي حدث في البيت العباسي، لذلك بادروا إلى تأييد حركة عبد الله العباسي بقوة وحماس بالرغم من أنه مارس ضد الشاميين صنوفاً من الحزم والشدة عند تعقبه مروان بن محمد، ولعل السبب في تأييدهم لحركته أنهم كانوا يأملون في استرجاع امتيازاتهم التي فقدوها بانتقال مركز الحكم إلى العراق من جهة، وانتقاماً من الدولة الجديدة وقادتها من الجهة الأخرى.

ثم إن عبد الله بن علي رحب بتأييد أهل الشام، ويقول ابن قتيبة: (قرب عبد الله بن علي موالي بني أمية وأطمعهم). فأخذ في تعيين قادتهم بمناصب إدارية كعثمان بن سراقة الأزدي الذي عينه والياً على دمشق، وزفر بن عاصم المهلبي عينه والياً على قنسرين، والحكم بن ضبعان عينه والياً على فلسطين.

لجأ الخليفة أبو جعفر المنصور إلى اتخاذ تدابير سريعة وحاسمة لمواجهة حركة عمه عبد الله بن علي فخرج بجيشه خارج الأنبار حيث عسكر في دير الجاثليق وأرسل قوات عسكرية إلى كل من قرقيسيت وهيت، للتصدي لأي قوة عسكرية يرسلها عمه عبد الله بن علي، وأخيراً عين أبا مسلم قائداً عام للجيش العباسي لمواجهة الحركة، إن هذا الاختبار كان موفقاً لكون الخليفة قد رغب في إيعاد أبي مسلم عن خراسان مصدر قوته أيضاً.

استمرت الحرب سجالاً بين الطرفين لمدة أربعة أشهر، استطاع أبو مسلم كسب مجموعة كبيرة من الجند الخراساني الذين كانوا مع عبد الله بن علي، وبعد معركة نصيبين انهزم الجيش الشامي وهرب عبد الله بن علي واتجه مع أهل بيته ومواليه إلى البصرة عن طريق مكة، والتجأ عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة، وبعد فترة من الزمن تمكن الخليفة المنصور من قتل عمه.

مقتل أبي مسلم الخراساني:

ذكرنا سابقاً بأن أبا جعفر المنصور حاول إقناع أخيه الخليفة أبي العباس بالتخلص من أبي مسلم عدة مرات إلا أنها باءت بالفشل. وقد لعبت الكراهية بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم دوراً في التخلص منه، فضلاً عن ذلك تأخره في إعطاء البيعة لأبي جعفر بعد وفاة أبي العباس، وهما في طريق الحج، ثم في ظهور نوايا خطرة اتجاه المنصور، وذلك عندما عرض على ولي العهد الثاني عيسى بن موسى أن يتعاونا على تنحية الخليفة الجديد.

وبعد القضاء على تمرد عبد الله بن علي نوى أبو مسلم الرحيل إلى خراسان، ولكن الخليفة عاجله بإرسال عدة وفود تحثه على مقابلة الخليفة قبل السفر كما أنه أرسل جوائز إلى قادة الجيش بمناسبة الانتصار وطلب من أبي مسلم مقابلته لأمر هام لم يذكره، وهنا كتب أبو مسلم للخليفة رسالة قال فيها: (إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدو إلا أمكنه الله منه وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت حربون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك وإن أبيت إلا أن تعطي النفس إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي).

إن هذه اللحظة الحاسمة من العلاقة بين الخليفة وأبي مسلم الخراساني شهدت سلسلة جديدة من المناورات السياسية التي ضمنها رسائل متبادلة بينهما، ويلفت النظر هنا رسالة جديدة أرسلها أبو مسلم الخراساني إلى الخليفة وهي رسالة غريبة في نصها ولكنها قوية السند، وفيها يهاجم أبو مسلم إبراهيم الإمام أخا الخليفة ومفجر الدعوة العباسية ويصفه بالتطرف والانحراف عن الإسلام طمعاً في الدنيا ومكاسبها!! وأنه أباح القتل بالشك في سبيل إنجاح الدعوة العباسية.

ويرى الدكتور فاروق عمر أنه لمن الصعب تصور أبي مسلم الخراساني وهو يكتب مثل هذه الرسالة مخاطباً المنصور ثم يسمح لنفسه بعدها بمقابلة الخليفة، ولعل هذه الرسالة من صنع اليد الشعوبية الفارسية أو أعداء العباسيين الأخريين الذين عبثوا بالتاريخ العباسي وشوهوه ولكن إذا كانت هذه الرسالة صحيحة استناداً إلى قوة إسنادها (روايتها) فهي تظهر أبا مسلم في حالة نفسية وعصبية لا يحسد عليها خاصة وأنه كان معتزاً بنفسه وبأعماله ولذلك اندفع إلى كتابة هذه الرسالة وهو في حالة شديدة من الغضب.

ولكن الخليفة ظل رابط الجأش مُسيطراً على أعصابه حذراً في اتخاذ المواقف، لئلّا يجعل أبا مسلم يفلت من قبضته، وقد استطاع في نهاية المطاف، باستغلاله عيسى بن موسى ولي العهد واحد أصدقاء أبي مسلم أن يقنع هذا الأخير بضرورة مقابلة الخليفة.

ولم يجد أبو مسلم الخراساني طريقاً آخر إلا الطريق الذي يوصله إلى الخليفة خاصة بعد أن سد الخليفة في وجهه طريق خراسان بتعيينه والياً جديداً عليها هو خالد بن إبراهيم الذهلي الشيباني وأحد الدعاة العباسيين الذين لهم سجل حافل أثناء الثورة الذي أرسل رسالة إلى أبي مسلم الخراساني يذكره بأن الطاعة خير من المعصية ويحذره من العودة إلى خراسان دون موافقة الخليفة.

وهكذا كان لا بد لأبي مسلم الخراساني أن يقابل الخليفة في المدائن لقد كانت المقابلة الأولى بين الخليفة وأبي مسلم ودية وقصيرة، أما في المقابلة الثانية فكان الخليفة قد هيأ رئيس الحرس عثمان بن نهيك مع جماعة من الحرس لقتل أبي مسلم بعد أن يأمرهم بذلك، أما ما حدث في المقابلة الأخيرة فيختلف المؤرخون فيه، إن التهمة الرئيسية التي وجهت لأبي مسلم الخراساني هي قتله الدعاة العباسيين في خراسان أمثال سليمان بن كثير الخزاعي والعرب الموالين للثورة أمثال أفلح بن مالك الفزاري وعلي بن جديع الكرماني حيث قال له المنصور: (لقد قتلت نظراء قحطبة الطائي). كما أنه جابهه بالسؤال المصرج الذي يرقى إلى درجة التمرد على السلطة وهو: (لماذا قررت السير إلى خراسان دون استئذاننا بذلك).

ولم يكن هناك جواب لأبي مسلم الخراساني سوى أن يذكر الخليفة بخدماته فأجابه الخليفة بأن العباسيين بما لهم من مكانة وكفاءة أوصلوا الشورة إلى النجاح وليس لأبي مسلم شيء ولو ذهبت مكانه أمه (جارية)، لقامت بما قام به في خراسان. ويرى الدكتور فاروق عمر بأن قتل أبي مسلم الخراساني كان بسبب تعاظم نفوذه وطموحاته الخطرة في خراسان والمشرق الإسلامي وتمرده على أوامر الخليفة العباسي بالبقاء في الشام ولذلك قال له الخليفة (لقد ارتقيت مرتقياً صعباً).

وحين اعتورت السيوف أبا مسلم الخراساني قال للخليفة: (استبقني لعدوك)، فقال لهم المنصور: (وأي عدو أعدى لي منك!!)، وبموت أبي مسلم الخراساني قطع الخليفة رأس الخيانة ويدها التي لو استطالت لهددت كيان الخلافة وسلطتها وخاصة في الأقاليم الشرقية، وقد عبر الخليفة عن رأيه هذا حين أجاب عيسى بن موسى الذي فوجئ بقتل أبي مسلم بقوله: (وهل كان لك سلطان مع أبي مسلم).

كما أن المنصور خطب في الناس بعد مقتل أبي مسلم موضحاً خطره والأسباب التي دعت إلى التخلص منه فقال: (أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في إثر يده أو فلتان لسانه، إنا لن نبخسكم حقوقكم، إنَّ أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه).


شارك المقالة: