أحداث الحكم الذي جرى في التاريخ العباسي

اقرأ في هذا المقال


تشويه التاريخ العباسي:

إِنَّ بعض الناس قاموا بتشويه تاريخ بني العبّاس الدور نفسه الذي عملوه في تغيير صفحات بني أُميّة بالاشتراك مع العبّاسيين، خصوم بني أُميّة السياسيين، وحُكام العصر الذي دُوّن فيه التاريخ. ذلك أن آل البيت الذين كانت الدعوة باسمهم، وعلى أساسها فسخ عقد بني أُميّة، قد انفرد من بينهم بنو العباس الذين استأثروا وحدهم بالسلطة دون بني عمومتهم من أبناء
أبي طالب، وأزاحوهم من وجههم.
ومن جانبهم الأمر الذي جعل أبناء أبي طالب يحقدون على بني العبّاس، وينازعونهم الأمر، ويعملون على تشويه سمعتهم وبالتالي تاريخهم. لقد استغل كل طامح للسلطة حبٌ آل البيت بل محبة أبناء أبي طالب خاصةً فأظهر التشيّع لهم. وحاول تحقيق مآربه من وراء ذلك. لذلك ظهرت فرق كثيرة حملت المظهر، وسلكت مسلكاً فيه كلّ بُعَدٍ عن الإسلام، وتحت هذا المظهر قامت حركة الزنج في جنوبي العراق، وعليه قامت القرامطة، والنصيرية، والإسماعيلية، والحمدانيون.

نبذة عن الدولة العبيدية الفاطمية:

قامت الدولة العبيدية (الفاطمية)، ومنها نشأ الدروز، هذا بالإضافة إلى الفرقة الإمامية
(الاثنا عشرية)، التي بدأت تصيغ أفكاراً لها، وتُبلورها، ثم نسبتها للعصور التي خلت وللرجال الذين مضوا، وما هم كذلك، واختلط الأمر على المؤرخين المحدثين، وظنوا أن هذه الأفكار قد نشأت منذ صدر الإسلام، وحمّلوها عظماء رجال ذلك العهد، أمثال علي زين العابدين بن الحسين، وابنه زيد، وحفيده جعفر الصادق.

وما جاء القرن الرابع الهجري إلا فرضوا سيطرتهم على كافة أنحاء الدولة الإسلامية، ولم يعملوا على وحدة صفوفهم ذلك لأنهم لم يكونوا فرقةً واحدة، ولم يحملوا فكراً واحداً بل ولا هدفاً واحداً. وإنما لكل إمارة أو دولةٍ رُقعة من الأرض تحكمها، الأمر الذي يدل على أنْهم رجال طامعون وأصحاب مصالح وغاياتٍ اتخذوا منها وسيلة لهم للسيطرة على الحكم وتحقيق
أغراضهم من وراء ذلك.

فقد حكم القرامطة على الجزيرة العربية كاملةً إلا فقط منطقة عسير، وقد وصلوا إلى بلاد الشام، وفتحوا مداخل مصر، وحكم الفاطميون شمالي إفريقية، ثم أخضعوا مصر وجعلوها قاعدة مُلكهم، وأخضع الحمدانيون شمالي بلاد الشام، وسيطر البويهيون على الدولة العبّاسية، ومع ادعائهم جميعاً إلا أن دولهم بقيت مُتفرقة، بل كثيراً ما اقتتلت وتناحرت، فقد وقف الفاطميون في وجه القرامطة، وصددوهم عن مصر، وقاتل البويهيون الحمدانيين.

الرخاء الذي عمَّ في الدولة العباسية:

لقد توقفت الفتوحات الإسلامية منذ أواخر العهد الأموي، وانصرف الناس إلى الصراع الداخلي، حتى إذا نهض العباسيون بالأمر، واستقرّ لهم وخلد الناس إلى الراحة قليلاً استغل هذا الوضع كل من كان يخفي في نفسه شيئاً، وكان مُعظم هؤلاء المستغلين من المجوس حيث أظهروا ذلك وساروا مع أبناء جلدتهم من المسلمين الفرس وراء العباسيين حتى إذا نهضوا بالحكم تسلّم بعض الفرس سلطاتٍ واسعة، فاستفاد المستغلون من العصبية، وعملوا على تهديم الإسلام.

وظهرت بينهم حركات سنباذ، والمسلمية، والرواندية، والمقنعية، والبابكية، بل وأصابع الاتهام تشير إلى داعية بني العباس الأول، أبي مسلم الخراساني، إذ نسبت بعض هذه الفرق انفسها له، أو طالبت بدمه. وإن كان هذا يبدو استغلالاً وإفادةً من وضعه، وطريقة للتخلّص بعد أن قدّم الذي قدّم، وإلى البرامكة وغيرهم. ومن هنا بدأت تبزغ قرون العصبية.

وطال عهد العباسيين (132‏ – 656 هجري)، فوصل إلى ما يقرب من خمسة قرون وربع القرن، وضعفت أيامهم في آخرها إذ زاد ظهور العصبية فقامت دول على أساسها، ولم يكن لها داعٍ لقيامها لولا فكرة العصبية التي حملتها، واللغة التي أحيتها من جديد، فظهرت الدولة السامانية، والغزنوية، والخوارزمية، ولا شك فإن الطموح السياسي كان أساساً في نشأتها، ثم نما باسم العصبية لدوامها، ودعم الشعب لها.

كما انقسمت أجزاء عن الدولة بشكل رسمي، وأعلن عن قيام خلافةٍ مُستقلةٍ فيها، فكانت الخلافة الأموية في الأندلس، والفاطمية في مصر وأجزاء من أفريقيا، ولم تكن هذه الدولة الإسلامية على تفاهم فيما بينها، بل على العكس كانت مُعاديةً بعضها لبعض، وكل منها على صلةٍ بأعداء الثانية، فالعباسيون في بغداد يُصادقون حكام الفرنجة خصوم أمويي الأندلس، هذا مع العلم أنه لا يوجد في دار الإسلام سوى خليفة واحدٍ، والمسلمون جميعاً تضمُّهم دولة واحدة، وهذا يدل على ضعف الروح الإسلامية لدى المسلمين في ذلك العهد بالنسبة إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل وفي الصدر الأول.

أحداث الحكم الذي جرى في خلافة العباسية:

كانت أرجاء الدولة مُتسعةً، وأعداد السُكان كان بشكل كبير وخاصة في العاصمة، والولايات، التي تجمع أشتاتاً من كافة الناس، وهذا يلزم جُنداً كثيراً لتثبيت أركان السلطة، ويعُم الأمن، ولما كان أهل البلاد يعيشون في حالة من الرخاء والرفاه فهم بعيدون عن حياة الجندية، وما دامت الفتوحات الإسلامية قد توقفت، ولم يعد الجهاد على نطاقٍ واسع كما كان وإِنّما في أوقاتِ محددة تقتضيه الظروف، ولهذا فإن السكان يرون ضرورةً للانخراط في الحياة العسكرية.

وكان الخليفة عندها لا بدَّ من جذب الجنود من مناطق ما زالت غير مُترفة بعد، أو قد دانت بالإسلام منذ وقتٍ قصير، أو يجلب الأسرى والمماليك، وينشئهم تنشئة عسكريةً بعد أن يدخلوا في الإسلام. وقد جيءَ بجُندٍ من الترك، وترقوا في الرتب حتى غدوا قادةً، ثم أصبح الأمر بيدهم يخلعون الخليفة إن شاءوا، ويعيّنون من أرادوا، فضعُّفت هيبة الخلافة، وانخفضت مهابة السلطة.

ومن المعروف أن البذر انصراف عن المهمة الرئيسية للإنسان وجذبه نحو الملذات وجمع المال، والتفاخر بالملك، وما ذكر أبداً ترف بخير، وكثرة المال ابتلاء من الله، فإما أن يُحسن الإنسان بإنفاقه وصرفه في وجوه الخير، وطاعة الله، وإما في غير ما أمر الله. وقد ذكر الترف في ثمانية مواضع في كتاب الله تنصبٌ كلها على الكافرين، والمجرمين، والفاسقين.

وظهر الترف نحو الفساد، واختفاء السلطة، وسقوط الدولة، وزوال الأمة. وقد زال الأمويون عندما أصابهم الترف، ودالت دولة بني العباس عندما حلّ فيها الترف، وسقطت الأندلس بيد النصارى وضاعت نهائياً بعد أن انصرف السكان إلى الترف. ومن المعلوم أن الجند إذا أعطوا الحكم استأثروا وتفرّدوا به استبدوا، وطغوا، وظلموا، فالجند إنما وجِدوا للقتال، والقائد لا يملك
طاعة جنده إلا أيام الجهاد وقتال أعداء الله، أما أن يستخدم جمعهم لتحقيق أغراضه، وقتال المسلمين وأُمرائهم.

الظلم المستبد في الدولة العباسية:

إن تغيير الأوضاع فهذا أمر لا تستقيم معه الحياة الاجتماعية، وإن كان هذا لا يمنع من وجود قادة عسكريين على درجةٍ من القوة والصلاح، ولكن لا يلبث الآمر بعدهم أن يعود إلى سابق عهده. فإن الحاكم الطاغية الذي يفرض سلطانه بالقوة قد يعطي الحكم هيبةً أو سُمعةً خارجيةً مدةً من الزمن، ولكن ينهار الوضع بعده مباشرة. لأن النفوس تكون قد ضعُفت. واعتادت على الذل الذي ذاقته وقت الطغيان.

ومنعت من حرية الفكر، فإن الأرض لا تحرر من الظلم بجموع لا يملكون الحرية، والفكر لا ينتشر على أيدي أناس لا يملكون حرية الفكر، والطغيان يسلب الناس الحرية فيجعلهم عبيداً، ويسلبهم حُرية الفكر ليتمكن من السيطرة عليهم. ولهذا تحرص الدول التي تُعادي الإسلام أن تُحاربه بحكام طُغاةٍ من الجند. وتجعل من الجيش مُرتزقةً مهما تقووا بالسلاح والعتاد إلا أن خسارة معركةٍ واحدةٍ تجعل الهزائم تتوالى عليه إذ تنخفض المعنويات مُباشرةً.

هؤلاء الجند الذين‎ سيطروا على الدولة العباسية قد أضعفوا أمرها، واستبدوا بحكمها، وكانوا
سبباً في متاعبها، رغم أن دعاة العصبية قد عدّوا هذا الضعف نتيجة سيطرة عناصر من غير العرب، ولكن طُغيان الجند لا يختلف بين شعب وآخر، فطغيان العرب كطغيان غيرهم والنتائج واحدة. وما من مرةٍ حكم الجند من أي عنصر كانوا إلا وتأخرت البلاد، وتلا حكمهم تراجُع
مُفاجى.

وإنَّ كثرة الأموال التي تدفقت على المسلمين زمن الفتوحات، وزادت أُعطياتهم، وكثرة المستخدمين الذين جُلبوا، والأرقاء الذين أخذوا في الحروب، والعبيد الذين اشتروا، كلهم قد اشتغلوا لساداتهم. وقدموا لهم المال الكثير، ووقروا لهم الراحة، وهو ما جعل السكان في حالةٍ من الرفاهية والرخاء إذ أعطوا أعمالهم كلها للعبيد، وعاشوا هم في راحةٍ فانصرف بعضهم نحو العلم وأنتج الخير الكثير، واتجه بعضهم نحو العمران فشيّدوا الأبنية.

ومال بعضهم نحو المفاسد فغبَّ منها ما شاء له هواه، وتمرّغ في حمأتها تمرّغ الحيوان في الوحل، وكان هذا بمفهوم الماديين وأنصارهم حضارةً فقالوا: (إن الحضارة الإسلامية قد بلغت
أوجها في العصر العباسي)، إذ فسّروا الحضارة بمفهومهم المادي البحت فنظروا إلى جانب العلم، والعمران، والمفاسد، وركزوا على جانب من السكان وهم المترفون المرفهون.

وتركوا الجانب الآخر وهم الفقراء وما يُعانون، وما نجم عن ذلك من حركات، وبالتالي انهارت الدولة وسقطت تحت ضربات المغول، ولم تستطع أن تقاوم لما أصابها من ترف، وذل من طغيان الجند، وتفتُتٍ من نشوء العصبيات، والخيانة ومن هنا نستطيع أن نقول: إن تاريخ الدولة العباسية قد أعطاه طابعه في التدوين، والحركات التي نشأت، والدول التي قامت، والضعف الذي حدث هي:

  • سيطرة الجند على مُقدرات الدولة.
  • العصبية التي استفحل أمرها.
  • المظاهر الحضارية المادية.

شارك المقالة: