اقرأ في هذا المقال
دراسة الصحة النفسية في الأنثروبولوجيا الطبية:
يرى علماء الأنثروبولوجيا الطبية إنه على عكس الأنواع الأخرى من الأمراض، التي تظهر أعراضًا متسقة نسبيًا وأدلة بيولوجية واضحة، فإن اضطرابات الصحة العقلية يتم اختبارها ومعالجتها بشكل مختلف عبر الثقافات، في حين أن تخصص الطب النفسي في الأنثروبولوجيا الطبية يطبق إطار مرضي لشرح المرض العقلي، حيث هناك إجماع في الأنثروبولوجيا الطبية على أن حالات الصحة العقلية أكثر تعقيدًا مما يوحي به نموذج المرض البيولوجي، وهذه الأمراض ليست مجرد اضطرابات بيولوجية أو كيميائية، ولكنها استجابات معقدة للبيئة، بما في ذلك شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية الذي يرتبط به الأفراد.
ولا يعتقد علماء الأنثروبولوجيا الطبية أن هناك فئات عالمية للأمراض العقلية، فقد يعبر الأفراد عن ضائقة نفسية من خلال مجموعة متنوعة من الأعراض الجسدية والعاطفية، حيث جادل عالم الأنثروبولوجيا الطبية آرثر كلاينمان، بأن كل ثقافة تؤطر مخاوف الصحة العقلية بشكل مختلف، ويختلف نمط الأعراض المرتبطة بحالات الصحة العقلية اختلافًا كبيرًا بين الثقافات، ففي الصين اكتشف آرثر كلاينمان أن المرضى الذين يعانون من الاكتئاب لا يفعلون ذلك بوصف مشاعر الحزن، ولكن بدلاً من ذلك يشتكون من الملل وعدم الراحة ومشاعر الضغط الداخلي، وأعراض الألم والدوخة والإرهاق.
وترتبط الصحة النفسية من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الطبية ارتباطًا وثيقًا بالتوقعات الاجتماعية والثقافية، ويمكن أن تظهر الأمراض العقلية نتيجة للضغوط والتحديات التي يواجهها الأفراد في أماكن معينة، فمعدلات الاكتئاب أعلى بالنسبة للاجئين والمهاجرين وغيرهم ممن عانوا من التشرد والخسارة، ويبدو أن الشعور بالعجز يلعب أيضًا دورًا في إثارة القلق والاكتئاب، وهي ظاهرة كانت موثقة في مجموعات تتراوح من الأمهات في المنزل في إلى السكان الأصليين المتأثرين بالفقر والتهميش الاجتماعي.
على سبيل المثال مرض انفصام الشخصية هو حالة ذات مكونات وراثية وبيئية، كما يوفر حالة أخرى ومثال مثير للاهتمام للتنوع بين الثقافات، على عكس القلق أو الاكتئاب، وهناك بعض الاتساق في أنماط الأعراض المرتبطة بهذه الحالة عبر الثقافات كالهلوسة والأوهام والانسحاب الاجتماعي، لكن ما يختلف هو الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى هذه الأعراض، حيث اكتشف عالم الأنثروبولوجيا الطبية روبرت ليملسون في بحثه في إندونيسيا أن أعراض الفصام غالبًا ما تكون ينظر إليها من قبل المجتمعات كأمثلة للتواصل مع عالم الأرواح، أو امتلاك الروح، أو آثار الذكريات المؤلمة.
وقام بتوثيق حياة بعض هؤلاء الأفراد في سلسلة أفلام، وأشار إلى أنهم ظلوا مندمجين في مجتمعاتهم ولديهم مسؤوليات كبيرة كأفراد في عائلاتهم وأحيائهم، ولم يكن المصابون بالفصام كذلك في مجتمعات وثقافات آخرى، ففي كثير من الأحيان يكونون محصورين في المؤسسات أو يكون العديد منهم يعيشون مع حالتهم دون أي علاجات طبية حيوية، وخلصت منظمة الصحة العالمية في دراستها التي استمرت لعقود عديدة عن مرض انفصام الشخصية في 19 دولة.
أن المجتمعات التي كانت أكثر قبولًا ثقافيًا للأعراض المرتبطة بالفصام قد دمجت الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة في حياة المجتمع بشكل كامل، ففي هذه الثقافات فإن المرض أقل حدة حيث كان الأشخاص المصابون بالفصام يتمتعون بنوعية حياة أفضل، ومثير للجدل أن بعض الثقافات الآخرى تشير إلى أن المرض العقلي يعتبر كوصمة عار، مما يؤدي إلى العزلة الاجتماعية الناتجة عن تأثير هذه الاستجابات.
دراسة البناء الاجتماعي للمرض في الأنثروبولوجيا الطبية:
توضح الأنثروبولوجيا الطبية أن المواقف الثقافية تؤثر على كيفية إدراك الحالات الطبية وكيف سيتم النظر إلى الأفراد الذين يعانون من مشاكل صحية من قبل المجتمع الأوسع، وهنالك فرق على سبيل المثال بين المرض الذي هو حالة طبية يمكن تحديدها بشكل موضوعي، والمرض الذي هو تجربة ذاتية أو شخصية للشعور بالتوعك، وقد يكون المرض بسبب المرض، لكن تجربة المرض تشمل أكثر من مجرد الأعراض التي يسببها المرض نفسه، فالأمراض هي على الأقل جزئيًا بنايات اجتماعية أي تجارب تُعطي معنى من خلال العلاقات بين المريض والآخرين.
ويمكن أن يتفاقم مسار المرض على سبيل المثال إذا نظر المجتمع المهيمن إلى المرض على أنه الفشل الأخلاقي، فالسمنة مثال ممتاز على البناء الاجتماعي للمرض، والشرط نفسه هي نتيجة للعادات والمواقف المستحثة ثقافيًا اتجاه الطعام، ولكن على الرغم من هذا المكون الثقافي القوي، فإن العديد من الناس يعتبرون السمنة ظرفًا يمكن الوقاية منه، ويلومون الأفراد على التحول إلى زيادة الوزن، وهذا الموقف له تاريخ ثقافي طويل.
على سبيل المثال تعتبر بعض الدلالات الدينية الشراهة كخطيئة، حيث تؤثر هذه الوصمة الاجتماعية على تجربة المرض، فلقد ذكرت النساء البدينات تجنب زيارة الأطباء خوفاً من الحكم ونتيجة لذلك قد لا يتلقون العلاجات اللازمة للمساعدة في حالتهم، فلقد روى عالم الأنثروبولوجيا الطبية بيتر عطية وهو جراح وباحث طبي قصة امرأة بدينة اضطرت إلى بتر قدمها وهي نتيجة شائعة لمضاعفات السمنة ومرض السكري، وعلى الرغم من أنه كان طبيباً، فقد حكم على المرأة بأنها كسولة.
وبعد ذلك كشف بحث جديد أن مقاومة الأنسولين وهي مقدمة لمرض السكري تتطور غالبًا نتيجة للسكريات الزائدة المستخدمة في العديد من أنواع الأطعمة المصنعة التي يتم استهلاكها بشكل شائع، كما يلاحظ علماء الأنثروبولوجيا الطبية أن معدلات السمنة المرتفعة هي انعكاس لأنواع الأطعمة التي كانوا يستهلكوها كجزء من بيئتهم الثقافية، بالإضافة إلى حقيقة أن الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من السكريات والدهون غير مكلفة ووفرة، في حين أن الأطعمة الصحية غالية الثمن وغير متوفر في بعض المجتمعات، وهو ما يسلط الضوء على التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية التي تساهم في هذا المرض.
ويقدم فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز مثالاً آخر للطريقة التي يمكن أن تتأثر بها التجربة الذاتية للمرض بالمواقف الاجتماعية، حيث أظهر بحث في العديد من البلدان أن الناس بما في ذلك العاملين في مجال الرعاية الصحية يميزون بينهم المرضى الأبرياء من ضحايا الإيدز وأولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم مذنبون، فالأشخاص الذين أصيبوا بفيروس نقص المناعة البشرية عن طريق الجنس أو تعاطي المخدرات عن طريق الوريد يُنظر إليهم على أنهم مذنبون.
ويُنظر إلى الأشخاص الذين أصيبوا بفيروس نقص المناعة البشرية من عمليات نقل الدم أو عندما كانوا أطفالًا على أنهم أبرياء، حيث أن مرضى الإيدز المذنبون غالبًا ما يجدون صعوبة أكبر في الوصول إلى الرعاية الطبية ويتم التعامل معهم بعدم الاحترام أو اللامبالاة بالإعدادات الطبية مقارنةً بالعلاج المتميز المقدم لأولئك الذين يعتبرون أبرياء، وفي المجتمع الأوسع يعاني المرضى المذنبون من التهميش الاجتماعي والاستبعاد بينما الأبرياء يتلقون قبولًا اجتماعيًا أكبر ومساعدة عملية في الاستجابة لاحتياجاتهم من الدعم والرعاية.
ودراسات مثل هذه ضرورية لتطوير وجهات نظر شاملة للسياق الثقافي والاقتصادي والسياسي الذي يؤثر على انتشار الأمراض ومحاولات العلاج، ويواصل علماء الأنثروبولوجيا الطبية اتباع استراتيجيات مبتكرة لمنع وعلاج الأمراض وهي استراتيجيات تدرك أن الفقر والتهميش الاجتماعي يوفران البيئة التي يزدهر فيها المرض.