رؤية وتطبيقات عملية لتطوير المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الأنثروبولوجيا

اقرأ في هذا المقال


ارتبطت الأنثروبولوجيا منذ بداية نشأتها بدراسة الشعوب البدائية وبموضوعات وثقافات طريفة. إلا أنها نمت نمواً موضوعياً محسوساً حين انتقل مجال تركيزها إلى المجتمعات الريفية، ثم الحضرية بكل ما تتضمنه تلك المجتمعات من قضايا ومشكلات.

رؤية جديدة لتطوير المنهج الأنثروبولوجي:

يتطلب تطوير المنهج الأنثروبولوجي إلى التطور الموضوعي، تطوراً منهجياً لا سبيل للوصول إليهما إلا من خلال الأبحاث المتعمقة التي تستعمل مناهج البحث الأنثروبولوجي، والتي تكفل لنا قدراً من التراكم في الخبرات العملية يسمح بوضع أطر نظرية، وتقنيات منهجية. وهو أمل يراود الكثيرين من العاملين في حقل الأنثروبولوجيا.

لذا انطلقت الرؤية الجديدة لتطوير المنهج الأنثروبولوجي من هذه الفكرة، في محاولة للتعرف على مدخل للبحث استخدم أصحابه المناهج الأنثروبولوجية لتقييم أبحاث وبرامج التغذية والرعاية الصحية في وقت قصير شهرين تقريباً. حيث يمكن خلاله التعرف على المشكلات الصحية، وضبطها أو منعها، وتحسين خدمات التغذية وصحة الطفل، وتنظيم الأسرة.

وتجنب الأمراض المعدية، وتقديم العلاج المناسب، وتنمية الصحة العقلية، وهو مجال كما نرى ألصق ما يكون بميدان الصحة وميدان الأسرة. وبالتالي فإن الإسهام المنهجي، وتقديم مداخل جديدة للبحث في هذه الموضوعات لاشك يمثل مطلباً هاماً وأساسياً يسهم في دراسة وفهم واقع المجتمع.

وننتهي بدعوة إلى إمكانية تطبيق هذا المدخل ليس في مجال الأنثروبولوجيا وحدها وإنما في العديد من العلوم الاجتماعية، وفي موضوعات ثانية، فهو محاولة عميقة لإجراء بحوث جادة في زمن قصير.

متطلبات التطوير المنهجي للأنثروبولوجيا:

بين علماء الأنثروبولوجيا التقليديون أن نجاح أبحاثهم قائم على الدراسة الحقلية وبينوا نجاح الأخيرة على توافر ظروف معينة منها أن يستغرق الباحث فترة كافية من الوقت فى إجراء بحثه، وعى الباحث أن يمضي سنتين على الأقل في دراسته لمجتمع يختاره.

وسوف يحتاج الباحث بعد ذلك إلى خمسة أعوام أخرى على الأقل ليتمكن من نشر نتائج دراسته في صورة تتفق مع المستويات العملية الحديثة، بل قد يطول الأمر به إلى أبعد من ذلك بكثير إن لم يكن متفرغاً لذلك العمل كل التفرغ. وهكذا نرى أن القيام بدراسة مركزة على أحد المجتمعات البدائية ثم نشر نتائج هذه الدراسة يستغرق ما يقرب من عشر سنين.

وتدعيماً للرأي السابق فقد اعتبر مالينوفسكى رائداً للبحث الحقلي حيث أنفق في دراسته لسكان جزر التروبرياند في ميلانيزيا أربع سنوات من ١٩١٤- ١٩١٨ وهي فترة تطول كثيراً عن المدة التي أمضاها أي أنثروبولوجي آخر من قبل وفي مقابل ذلك كان قصر مدة البحث الحقلي مثاراً للنقد.

فقد ذكر إيفانز بريتشارد في وصفه لدراسة هادون لمضايق توريس في المحيط الهادي في عامي ١٨٩٨ و١٨٩٩ أنها رغم كونها نقطة تحول في تاريخ تعريف الأنثروبولوجيا إلا أنها كانت تعاني كثيراً من نقاط الضعف منها قصر المدة التي كانوا يمضونها بين تلك الشعوب.

وليس من المنطقي لأي علم من العلوم أن يظل صامداً جامداً دون اللحاق بركب التطور الموضوعي، والمنهجي، والنظري. ولذا ففي مجال العلوم الأنثروبولوجية سعى العلماء إلى فهم السلوك الإنساني ولتحقيق هذه الغاية وجدوا أنهم يجب أن يختبروا تأملاتهم النظرية من خلال حقائق مأخوذة من العالم الواقعي.

واستطاعوا من خلال القيام بهذه المهمة أن يطوروا عدداً من الأساليب الفنية في الحصول على بيانات عن الإنسان وعلاقاته الاجتماعية وفي مجال الأنثروبولوجيا التقليدية صبّ الأنثروبولوجيون كل اهتمامهم على دراسة الشعوب القبلية أو القروية في المجتمعات الأمية التي تقع خارج دائرة تأثير الثقافة، ولقد تطورت من خلال دراسة مثل هذه المجتمعات أغلب مناهج البحث، وموضوعات الاهتمام، والنظريات الأنثروبولوجية.

وقد أجرى عدد من العلماء أبحاثهم مستخدمين الطرق الأنثروبولوجية المتعمقة مدركين أهمية الاستمرار والتراكم في الخبرات العملية المكتسبة من الميدان، خاصة وأن هذا الاستمرار والتراكم هو أساس تقدم العلم والمجتمع، فمن خلال تلك الأبحاث تم استيعاب كامل لمختلف تقنيات وأدوات البحث الأنثروبولوجي، وقد يمكنهم ذلك هم وغيرهم من استخدام تلك التقنيات والأسس في إجراء أبحاث أنثروبولوجية تتم في فترات أقصر مختزلين بذلك عنصر الزمن.

وإذا كانت الأبحاث السابقة تمثل أحد الحقول الصالحة لاستنبات بذور التطور العلمي في نطاق المجتمع على الأقل فإن هناك حقلاً آخر تجب الإشارة إليه، وهو بحث حول أنماط عمالة المرأة، والمتغيرات الديموجرافية.

وقد انقسمت الدراسة في هذا البحث إلى شقين أحدهما يعتمد على المنهج الأنثروبولوجي، تولى الإشراف عليه علماء الأنثروبولوجيا وشاركوا في جمع المادة الميدانية في إحدى مناطق البحث الحضرية، حيث استخدم المنهج الأنثروبولوجي في ثوب جديد تماماً، يجمع بين ما هو كمي وما هو كيفي وفي كلتا الحالتين يسعى البحث إلى تحقيق درجة عالية من الدقة والصدق فقد كان هذا البحث استجابة لدعوة عالمية إلى اتجاه أكثر شمولاً لدراسة أدوار المرأة والرجل.

والمقصود بالشمول هنا “الجمع بين المفاهيم والأساليب البحثية المستمدة من عدد من فروع العلم، حتى يمكن النفاذ إلى أعماق النظريات والمفاهيم والمناهج”.

وقد تمكن هذا البحث على مستوى قومي وعالمي من تطوير بعض الأطر التصورية وأدلة جمع البيانات، والوصول إلى بعض التحليلات الهامة، ما كان يمكن الوصول إليها دون الدراسات المتعمقة الواعية، التي استخدمت العديد من طرق جمع المادة الأنثروبولوجية مثل الملاحظة بأنواعها ودراسة الحالة التي طبقت على الأفراد، ووحدات المعيشة، والمجتمع المحلي وغيرها. كما تمت الاستعانة بطريقة استخدام الوقت حيث لعبت هذه الطريقة دوراً هاماً في تحليل عدد من القضايا المختلفة المرتبة بالعمل، والمشاركة في قوة العمل.

نماذج الدراسات الأنثروبولوجية للوصول إلى فهم السلوك الإنساني:

لعل نماذج الدراسات الأنثروبولوجية تعكس جدوى استخدام تقنيات وأدوات البحث الأنثروبولوجي للوصول إلى مزيد من فهم السلوك الإنساني، ليس في الأنثروبولوجيا وحدها، بل في مختلف العلوم الاجتماعية الأخرى.


شارك المقالة: