ضعف قيمة العهود في عهد المنصور:
لما جاءت الدولة العباسية وقد تشكلت على أيدي عنصر غير عربي، ظهر منذ أول نشأتها حوادث متكررة تدل على أنه ليس للعهود في نظر خلفائها قيمة، فقد قتل المنصور في حياة السفاح ابن هبيرة بعد أن أمن أماناً لا شك ولا حيلة فيه، وكان الذي أشار بقتله أبو مسلم الخراسان مشيد الدعوة العباسية وكانوا لا يحبون أن ينفذون أمراً دون مشورته.
ثم قام المنصور بإعادة هذه الرواية نفسها مع أبي مسلم بعد أن أمنه ثم فعل مثل ذلك مع عمه عبد الله بن علي بعد أن أمنه وأعلن رضاه ولذلك لمّا كاتب المنصور محمد بن عبد الله بن الحسن وقال إنه يعطيه الأمان أجابه محمد بقوله: (وأما أمانك الذي عرضت فأي الأمانات هو أأمان ابن هبيرة أم أمان أبي مسلم أم أمان عمك عبد الله بن علي والسلام)، وهذه كلمة شديدة الوقع سيئة التأثير لأنها وصمة عار كبيرة لمن هو قائم مقام رسول الله في حراسة دينه وسياسة الأمة.
وهذا الذي جرى في مركز الدولة كان مجرئاً لمن تقدم بعد ذلك أن يقوم بمحاولة التخلص مما تحتوي به العهود إذا رأوها مخالفة لمصالحهم، ولا سيما العهود التي تعقد لتولي الخلافة فإنهم جعلوها من الأشياء التي يسهل حلُها، وإن كان بعضهم يُحاول أن يلبس باطله ثوب الحق.
قام المنصور بعقد اتفاقية مع عيسى بن موسى مثلما عقد اتفاقية له السفاح الخلافة بعد المنصور، فقدم عليه ابنه محمداً المهدي وهذا التقديم وإن كان قد تم بطلب عيسى ورضاه إلا إنا نعرف كيف توصل المنصور إلى الحصول على هذا الرضا من الإساءات المتكررة لعيسى والتهديد المواصل حتى هم الرجل أن يخلع طاعة المنصور ويفتن الأمة.
وبشكل عام وبتوضيح موجز أنه لو وجد نصراء لفعل وإن كان قد أثر عنه شعر يفيد أنه أثر مصلحة الأمة على مصلحة نفسه وهو: (خيرت أمرين قد ضاع الحزم بينهما إما صغار وإما فتنة عمم وقد هممت مراراً أن أساجلهم كأس المنية لولا الله والرحم).
ضعف قيمة العهود في عهد المهدي:
فعل المهدي مثل ذلك معه فعزل عن العهد بمرة وقد ارتكب من الوسائل ما ارتكبوه، وفعل الأمين ذلك مع أخيه المأمون، فأدى ذلك إلى الفتنة الشعراء التي كانت بين سنة (194 – 198 هجري)، قاست الأمة في أثنائها مصاعب هائلة ولم يوجد منهم من هاب ذلك الفعل محافظة على العهود والمواثيق، ومن البديهي أن أمثال هذه العهود ليست قاصرة على المتنازعين بل تتعداهم إلى القواد والأمراء فهؤلاء ينشقون أيضاً ويستسهلون الإقدام على فك تلك القيود التي حلفوا الأيمان الوثيقة على الوفاء بها.
كتب الرشيد أماناً ليحيى بن عبد اللّه وأكد فيه غاية التأكيد ولمّا ارتاب منه صار يبحث في الوجوه التي يبطل بها الأمان وجعل فقهاء وقته الواسطة في ذلك، فمنهم من أبت عليه شيمته ودينه أن يسترسل في الدين مع الأهواء، ومنهم من سارع إلى هوى الخليفة وصار بيدي الأوجه التي ينتقض بها الأمان.
كل هذا من العيوب التي تصدعت عامود البيت وتعدت إلى فرقة الأمة، فأضعفت عصبية الدولة وآل الأمر بخلفائها إلى أن تكون قوتهم مستمدة من المتغلبين عليهم، وقد بقيت أسباب أخرى ثانوية يمكن استنتاجها مما تقدم في التاريخ التفصيلي.