علم المجتمعات البشرية عند دور كايم في علم الاجتماع:
بالنسبة لدور كايم ليست الإثنوغرافيا أو الاقتصاد أو الجغرافيا أو التاريخ أو الديموغرافية سوى جوانب خاصة للعلم الاجتماعي يجب توحيدها، إنها سوسيولوجيا شاملة رسم مخططها في ثلاث مراحل وهي:
أولاً: مورفولوجيا اجتماعية: وهي من جهة دراسة الأساس الجغرافي للسكان من خلال علاقاتهم مع التنظيم الاجتماعي، ومن جهة أخرى، دراسة السكان من حيث الحجم والكثافة والتواجد على الأرض.
ثانياً:فيزيولوجيا اجتماعية: أي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، ومنها سوسيولوجيا دينية، سوسيولوجيا الفن، إنه كامل الحقل الاجتماعي هو المعني.
ثالثاً:سوسيولوجيا عامة: وهي الهدف الفلسفي للعلم، والتوليف الكبير لتاريخ المجتمعات البشرية.
غير أن دور كايم كان واعياً تماماً بأن على هذه التعميمات أن تتوقع أن يشكل العمل التحليلي الهدف الأكثر إلحاحاً للسوسيولوجيا، كذلك وبعد أن حدد قواعد المنهج السوسيولوجي، مضى يبين المثال في كتاب الانتحار.
ما زال هناك سوء فهم في تاريخ العلوم الإنسانية، كان دور كايم سينكر أية قيمة للمشاعر والتمثيلات وبقية الحثيثات النفسية الأخرى بإعلانه أن الظواهر الاجتماعية لا بدّ وأن تعالج كالأشياء، كم تعرض دور كايم للوم حول هذه النقطة، ولوضع حد لهذا الظلم، يجب إعادة قراءة النصوص بانتباه ومعرفة السياق الذي كان يعارض تحديداً بين دور كايم وغابرييل تارد، فهذا الأخير يريد أن تقتصر السوسيولوجيا على سيكولوجيا بينية.
يقول دور كايم أنه لفهم المجتمع لا تكفي دراسة الوسائل التي تنتشر من خلالها المعايير مثل التقليد الأثير لدى تارد، بل يجب دراسة مصادر هذه المعايير التي تشكل خصوصية كل مجتمع، وعليه لا يجب النظر من جهة المشاعر الفردية إنما من جهة ما يفرض عليها، أي المؤسسات التي هي حيثيات يمكن ملاحظتها بشكل موضوعي.
ولهذا تعيش المؤسسات عن طريق الأفراد وهؤلاء يملكون عنها تمثلات، لكن وهنا الجوهر أنها تمثلات جماعية، وبالتالي لا يمكن تفسيرها عن طريق علم النفس الفردي، أوضح دور كايم ذلك حين دراسته مع موس، عن بعض الأشكال البدائية للتصنيف، مساهمة في دراسة التمثلات الجماعية، وتوسع فيها من خلال تشييده لسوسيولوجيا المعرفة في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية.
لكن ما يلخص بشكل أفضل الصلة بين السيكولوجيا والسوسيولوجيا هي الدراسة التي قام بها لظاهرة تبدو خصوصية وشخصية وغير عقلانية، هي الانتحار، تابع تحليل دور كايم مؤسس على رفض لكل معطى قبلي، وعلى الاستخدام المنتظم للإحصاء، مستخدماً هنا وسيلة فعالة جداً لتفحص الفرضيات، فقد مضى في البداية يختبر صلاحية التفسيرات الأكثر شيوعاً عن الانتحار، المرض العقلي والعرق والوراثة والعوامل الكونية والمناخية والتقليد، وأظهر أنه إذا كان ثمة عوامل فردية قد تسهل الوصول إلى الفعل، فإنه ما من تفسير من هذه التفسيرات مبرهن من خلال دقة إحصائية، ومنذئذ وضع دور كايم فرضية أن البيئة الاجتماعية المحيطة بالشخص هي التي تحدد انتحاره.
فقام بفحص السياقات الدينية والعائلية والسياسية والاقتصادية، وقارن الأوساط الحضرية والريفية والمناطق والبلدان والحقب، ما الذي استخلصه من هذا التحليل؟ لاحظ دور كايم أن الانتحار على الدوام أعلى في المدينة منه في الريف، وهو أشد في حالة الذين لم يتزوجوا منه في حالة الزواج، وأشد عند المتزوج من دون أبناء، وأشد في حالة غياب الدين منه إذا كان الفرد جزءاً من جماعة دينية، كذلك يقل انتحار الفرد عندما تكون بلاده في حالة حرب أو هي في أزمة اقتصادية قاسية، أي أن الروابط الاجتماعية تعيد اللحمة في الملمات.
وقد وصل دور كايم إلى ذروة تحليله وهو يبحث عن قانون سوسيولوجي، هو النقطة المشتركة لكافة خلاصاته الجزئية التي تبدو من دون علاقات، ففهم أن العائلة والدين والمجتمع السياسي هي مقدار من الرمز الاجتماعية التي تحدد هوية الأفراد، وأنه في كل مرة تضعف فيها هذه الرمز بشدة، فإن الفرد يفقد نقاط استناده، وأخيراً أصبح باستطاعته أن يطرح بقوة هذا القانون العام المدهش، “يتنوع الانتحار تبعاً لمنطق معاكس لدرجة الاندماج في الرمز الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد.
وهكذا فإن المشاعر الفردية هي التي تحدد كل انتحار، لكن المنهج السوسيولوجي وحده ومن خلال اعتباره الانتحار شيء بمعنى واقعة يمكن رصدها موضوعياً، يمكن أن يتيح تفهم طبيعته الحقيقية، أي الخواء الوجداني والعزلة الأخلاقية الناجمين عن خلل في الاندماج الاجتماعي، ويمكن للسوسيولوجيا إذن أن تعود إلى تفسير سيكولوجي في حال فهمنا أن البحث عن الأسباب العميقة للأفعال الفردية يجب أن يكون دوماً في الشروط الاجتماعية الموضوعية للحياة.