شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية بن أبي سفيان:
أشار بعض المؤرخين للشبهات حول مصارف الأموال في الدولة الأموية في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كما ذكروا العديد من المصارف وسموها بأنها جائزة وغير شرعية منها:
التفريط في خراج بعض الأقاليم والتفرقة في العطاء:
إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص:
توجد الكثير من الروايات المتعددة التي تقول بأن معاوية بن أبي سفيان قد أعطى مصر طعمة إلى عمرو بن العاص؛ وذلك لأنه قام يتأييده في حربه مع علي بن أبي طالب، كما أن روايات أخرى تقول بأن عَمراً قد فَضَّل ولاية مصر على حسنى الآخرة بقول صريح منه: إنما أردنا هذه الدنيا، أو أنه قال لمعاوية: لا أُعطيك من ديني حتى آخذ من دُنياك، أو قوله الآخر: إنما أُبايعك بها ديني.
وهذ الروايات كلها خاطئة فكانوا يريدون إظهار عمرو بن العاص على أنه رجل مطامع وصاحب مصالح، وهناك العديد من الدلائل على أن هذه الروايات خاطئة، ومنها من عرف به عمرو بن العاص بصحة إسلامه وتقواه هو ومعاوية بن أبي سفيان، كما أن تاريخهما بخدمة الإسلام مضيء.
ففي معاوية بن أبي سفيان قال رسول الله صلَّ الله عليه وسلم داعياً له: اللهم اجعله هادياً مهديّاً واهدِ به، كما قال: اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب وقهِ العذاب، وكان صلَّ الله عليه وسلم يشهد لعمرو بن العاص بالإيمان بقوله: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص، وبحديث آخر: ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام، وقوله صلَّ الله عليه وسلم: وصدق عمرو، وإن لعمروا عند الله لخيراً كثيراً.
كانت بيعة عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان في عهد علي بن أبي طالب بدم الخليفة عثمان بن عفان، فعندما قُتل عثمان تأثرا عمرو كثيراً ولمَّا وصله خبر مقتله ذهب باكياً وهو يقول: يا عثماناه، أنعى الحياء والدين، فقد كان عثمان أقرب أصحابه له، وبعدها ذهب لمعاوية حتى ينتقمان من الذين قاموا بقتله، وكان مقتل عثمان كافياً ليحرك كل غضبه على المجرمين السفاحين، الذين تجرأوا على المساس بحرم رسول الله وقتل خليفته عثمان على مرأى الناس.
ومن الدلائل التي تنفي بأن معاوية بن أبي سفيان أعطى مراً طعمة لعمرو بن العاص ما ذكره أبو مخنف، وهو أحد رواة الفريه السابقين، ما قاله: بأن معاوية بن أبي سفيان قام بإرسال جيشه حتى يقوموا بفتح مصر، وأن يأخذوها من أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان ذلك في عام 38هـ وقائد الحملة كان عمرو بن العاص، وكان يرجوا بأن يكون خروجه عليها حرباً؛ لعظم الخراج فيها، فكيف يقوم معاوية بإعطاء كل الخراج لعمرو بن العاص وهو بأمّس الحاجة إليه؟
التنازل عن خراج دارابجرد للحسن بن علي بن أبي طالب:
كان بعض المؤرخون يزعمون بأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قام بالتنازل عن خراج دارابجرد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، وأن يقوم بإعطائه من بيت المال الموجود في مدينة الكوفة مبلغ خمسة آلاف درهم؛ وذلك حتى يقوم الحسن بن علي بالتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، ولكنه لم يستطع الحصول على خراج دارابجرد؛ لأن أهل البصرة منعوه من ذلك، وكانوا يزعمون بأن ذلك من تحريض معاوية أو بمبادرة البصريين.
وهذه الروايات تُظهر بأن معاوية بن أبي سفيان والحسن بن علي يتعاونون لأكل مال المسلمين بالباطل، وهذ الشيء باطل وغير صحيح، وذكر في صحيح البخاري بأن الحسن بن علي قال لوفد معاوية بن أبي سفيان، وهما عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به.
وحديث الحسن بن علي هنا عن الأموال التي أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، وكان يريد بأن لا يطالبه معاوية بهذا المال، ولم يذكر بأن يدفع له معاوية الأموال في وقت قادم، كما قال ابن أعثم أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين، ومن المعروف بأن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا يوجد أي علاقة مباشرة بين الحسن بن علي بن أبي طالب وأهل البصرة بهذا الجانب.
التفرقة في العطاء:
أول من قام بسن ديوان العطاء في الإسلام هو عمر بن الخطاب، وقبل ذلك كان في عهد الرسول صلَّ الله عليه وسلم، وكانت الغنائم التي تُجنى من المعارك كانتت تتوزع على المسلمين بعد انتهاء المعركة على الفور، وقد أعطى نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام المؤلفة قلوبهم الكثير من غنائم حنين، وبعد ذلك تقرر أن تفضيل البعض في إعطائهم الغنائم شيئاً مستحب إذا اقتضت مصلحة المسلمين بذلك.
وبعد أن اتسع نطاق الغزو في زمن عمر بن الخطاب استشار أصحابه، وانتهوا بقرار أن يتم تدوين ديوان العطاء؛ حتى يستطيع توزيع الغنائم على نحو معروف، وكان يفضل أصحاب السابقة والذين يقربون النبي صلَّ الله عليه وسلم على غيرهم، وعندما جاء الأمويون كانوا يفضلون أهل الشام على غيرهم؛ وذلك لأنهم كانوا من الأنصار المخلصين لهم، وهم عمود الجهاد في الشمال وجهاد الروم أو فتوحات المغرب أو الفتوحات في إفريقيا والأندلس.
كما أن أهل الشام كانوا يحافظون على سلامة الدولة من المخالفين والمعتدين، كما أن ولاة الأمصار كانوا يستنجدون بهم عندما يخرج عليهم الخارجون، وعدم قدرة جندهم على صدِّها، كما حدث في قتال ابن الأشعث، وثورة زيد بن المهلب في عهد عبد الملك بن مروان، وانتفاض البربر والخوارج في إفريقيا في عهد هشام بن عبد الملك.
التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:
قام معاوية بن أبي سفيان بإنفاق الكثير من الأموال؛ حتى تتآلف قلوب الزعماء والأشراق، ويقوي أركان الدولة الأموية التي قامت بعد الكثير من الصراعات التي حصلت، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى بأن هدر المال أفضل من هدر الدماء، فكان يعطي الأموال لهؤلاء الرجال حتى تميل قلوبهم وقلوب أتباعهم، وكان قد فهم من الرسول صلَّ الله عليه وسلم بعد أن قام بإعطاء المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة؛ حتى يستميل قلوبهم ويجذبهم إليه.
فإذا كان معاوية بن أبي سفيان مخطئاً في ذلك، فما هو القول في السادة الذين قبوا العطايا والجوائز التي تُمنح لهم، وكان فيهم من يتصف بالورع والتقوى والخوف من الله، وإن من الحق قوله: إن المجتمع الإسلامي في عهد معاوية كان يختلف كثيراً عن زمن النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
مظاهر الترف عند الأمويين:
عند المؤرخين كان الترف والبذخ عند الأمويين والبذخ كان يحتل الكثير من الكلام، وكان الأمويين تظهر عندهم مظاهر البذخ والترف من لباسهم وعطائهم ونفقاتهم، وعندما كان معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام قام بلفت نظر عمر بن الخطاب بأن يغدو في موكب ويذهب في الآخر، ولكننا لا نستطيع النظر لحياة الأمويين بدون النظر إلى المجتمع الإسلامي كافة فهي جزء منه، وتتأثر به ويتأثر بها.
وفي العصر الذي فيه الدولة الأموية كان التطور الاجتماعي يتماشى بسرعة، وكما أن مظاهر الغِنى والرغبة في التمتع الحلال تصبح أمراً ظاهراً، وأن الذوق العام والقيم الاجتماعية التي كانت تحكم حينها، وهذه الأخبار لا تنفيها زهد معاوية بن أبي سفيان وزهد عامله زياد بن أبيه وثيابه المرقوعة، وهذا دليل على نفوس عالية لا ترى الزهد نقصاً.
وعندما ننظر إلى ذلك العصر لا نرى أن مظاهر البذخ والترف لم يقتصر فقط على الأمويين، فكان البعض من بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من الذين كانوا يعارضون الدولة الأموية لم يكونوا أقل سماحة من بني أمية، وإذا كان الأمويون قد بنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب القصور، وكان لقصورهم ذكر وبهاء، وكان العرب يرون ذلك جزءاً من الكرم، كما أنهم تفاخروا به وتوقعوا ذلك من كل شريف من أشراف العرب حتى وإن لم يكن حاكماً.
وكان الترف في المجتمعات الإسلامية من الظواهر السلبية، وإن كثرة البحبحة عند الأمويين في الإنفاقات المالية أدَّت لظهور الترف، وبعدها أصبح ترفاً مدمراً ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في يد الصليبيين، وبعدها سقوط بغداد في يد المغول، بالإضافة لزوال الدولة العباسية، ولهذا يحذر الإسلام من الترف لما له من عواقب.
وبالرغم من ترف وبذخ الأمويين ألا أنهم كانوا أقل فساداً بالمال من العباسيين؛ وذلك لأنهم كانوا دائمين الإنشغال بتثبيت أركان الدولة، والجهاد في سبيل الله، ولكن العباسيون بعد أن أخذوا الملك بدأ الترف يسرى في عروقهم وخاصةً ما فعلته الحاشية الفارسية المفسدة التي تتعمد الفساد، كما أن الترف انتقل مثل العدوى من الخلفاء إلى الأمراء والوزراء ومن بعدهم التجار الذين وصلت أرباحهم من التجارة ملايين الدنانير.