مشاركة الأنثروبولوجيا في التنمية

اقرأ في هذا المقال


تاريخ العلاقة بين الأنثروبولوجيا وأفكار وممارسات التنمية:

من المفيد أن نستعرض بإيجاز تاريخ الحالة الراهنة للعلاقة بين الأنثروبولوجيا وأفكار وممارسات التنمية. فالعلاقة نفسها تعود إلى الأيام الأولى لانضباط الأنثروبولوجيا في الفترة الاستعمارية، حيث اتخذت أشكالًا مختلفة منذ ذلك الحين حتى الوقت الحاضر. كما أصبح من الشائع في الثمانينيات التمييز بين “علماء الأنثروبولوجيا التنموية” الذين عملوا على نطاق واسع ضمن أجندة وكالات التنمية في أبحاثهم التطبيقية أو الدعوة لسياسات معينة.

وأولئك “علماء أنثروبولوجيا التنمية” الذين وضعوا لأنفسهم تحديات تحليل المعاني وآثار أفكار وممارسات التنمية نفسها، ومن خلال هذا النهج المزدوج، اعتمد علماء الأنثروبولوجيا بشكل عام إما موقف المشاركة المتعاطفة مع ممارسة التنمية أو الموقف الأكثر تعرضاً للنقد أو العِداء للتنمية.

أدوار متميزة لعلماء الأنثروبولوجيا في التنمية:

اقترح لويس عام (2005) إنه يمكن وصف المواقف بشكل أكثر دقة، على أنها ثلاثة أدوار متميزة لعلماء الأنثروبولوجيا في التنمية وهي:

1- نشطاء ملتزمون.

2- مشاركين مترددين.

3- مراقبين معاديين.

دور علماء الأنثروبولوجيا كنشطاء ملتزمون في التنمية:

بالنسبة إلى “النشطاء الملتزمون”، فهم أولئك الذين انخرطوا في التنمية بشكل فعال، وسعوا للعب دور معياري من مجموعة من المناصب المختلفة داخل وكالات التنمية، فإن دور الأنثروبولوجيا التطبيقية في التنمية يظهر بمجالات مثل الأعمال أو الإعلام غير الإشكالية نسبيًا. ولطالما كان هنالك اهتمام من قبل علماء الأنثروبولوجيا لاستخدام معارفهم لأغراض عملية. ففي مجال الأنثروبولوجيا التطبيقية، استخدمت الأساليب والأفكار الأنثروبولوجية في السياقات العملية أو السياسية، حيث اشتملت على التعاون مع النشطاء وواضعي السياسات والمهنيين.

على سبيل المثال، ساهم علماء الأنثروبولوجيا بنتائج أبحاثهم في صانعي السياسات على العديد من القضايا مثل العادات والتقاليد المحلية وتسوية المنازعات وحقوق الأرض. كما أدى الاحتراف التدريجي لصناعة التنمية من السبعينيات فصاعدًا إلى نمو الفرص لعلماء الأنثروبولوجيا للعمل ضمن وكالات التنمية كعاملين أو مستشارين، وأيضًا تولوا وظائف في مجالات متنوعة مثل العمل المجتمعي والشركات وأقسام شؤون الموظفين. وفي هذا الدور، عمل علماء الأنثروبولوجيا غالبًا على تفسير الحقائق المحلية للمسؤولين والمخططين.

حيث ظهرت الأنثروبولوجيا أيضًا كأداة، من المحتمل أن توفر الوسائل لفهم سلوك الناس، وبالتالي إلى حد ما السيطرة عليه، سواء كمستفيدين أو موظفين أو عملاء.

دور علماء الأنثروبولوجيا كمشاركين مترددين في التنمية:

المجموعة الثانية، “المشاركين المترددين”، وهؤلاء هم علماء الأنثروبولوجيا الذين يتعاملون مع التنمية أيديولوجياً من خلال أشكال المشاركة التي تؤكد المحلية أو الشعبوية، مثل روبرت تشامبرز، حيث تتداخل أحيانًا مع المجموعة الأولى، لكنها تنتج عن توسيع فرص التعاقد وتقلص الموارد الأكاديمية في أماكن متعددة، والتي وجهت في الأنثروبولوجيا كشرط لتوظيفهم.

دور علماء الأنثروبولوجيا كمراقبين معادين في التنمية:

وأخيرًا، هناك كانت مجموعة رفيعة المستوى من “المراقبين المعادين”. وأولئك هم علماء الأنثروبولوجيا الذين كانت دوافعهم، كما في حالة عمل إسكوبار وفيرغسون، في الأساس حرجة وتفككية. على مستوى واحد، حيث يتدفق مثل هذا العمل بسلاسة من اهتمامات العديد من علماء الأنثروبولوجيا القديمة بالآثار الاجتماعية والثقافية للتغير الاقتصادي في المناطق الأقل تطوراً.

وفي الآونة الأخيرة هناك علماء الأنثروبولوجيا، مثل فيرغسون، الذي اختار أفكار وعمليات ومؤسسات التنمية كمجال دراستهم، لكنهم اتخذوا نهجًا نقديًا لم يحاول عادة التعامل مع وكالات التنمية نفسها.

الأساليب التشاركية للتنمية في الأنثروبولوجيا:

أصبح النهج المعروف على نطاق واسع بالتنمية التشاركية شعارًا في كل من نظرية التنمية وممارستها في الأنثروبولوجيا، حيث شكلت فكرة مشاركة السكان المحليين في عمليات تحويل مجتمعاتهم، والتي تم تقديمها لأول مرة كتقييم ريفي تشاركي كأساليب للتنمية، وبحلول التسعينيات، أصبحت المناهج التشاركية، التي أدرجها البنك الدولي في مشروعاته، مدمجة في أساليب التنمية السائدة. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، تعرضت التنمية لانتقادات شديدة على الرغم من هذا النهج.

وهذه الانتقادات هي جزء من الجدل الأوسع الذي برز في التسعينيات، على الرغم من قيمتها، إلا أنها لا تقدم بديلاً لعديد من الانتقادات الموجهة للتنمية التشاركية، موازيةً للانتقادات التي أثيرت ضد الأساليب الأنثروبولوجية. فمن خلال التفكير في انتقادات “الملاحظة التشاركية” في الأنثروبولوجيا، طور عالم الأنثروبولوجيا لوك لاسيتر بالاعتماد على مناهج التعاون النسوية وما بعد الحداثة، نهجًا يُعرف باسم “الإثنوغرافيا التعاونية”.

حيث يذهب معيار التعاون الذي يقدمه إلى أبعد من مجرد المشاركة الأنثروبولوجية. فمعيار التعاون هو عمل من أعمال الخلق المشترك والتفسير المشترك، من تصور المشروع وحتى تحليل البيانات التي تم جمعها. وهو يتطلب أن يوضح المشروع المعرفة من وجهة نظر السكان الأصليين، وليس من خلال الافتراضات والمفاهيم المفروضة من الخارج. وهذا النهج يثير التساؤل حول الممارسات المؤسسية الحالية داخل الأوساط الأكاديمية لمشاركة التنمية، مثل تفضيل المعرفة الأكاديمية على المعرفة الأصلية.

الأنثروبولوجيا والتنمية:

الأنثروبولوجيا والتنمية لها تاريخ طويل ومتشابك. حيث إنهم يتشاركون في نفس الإيمان بالتقدم الذي تحمله عصر التنوير وتأثروا بشدة بنظريات داروين في التطور، لكن بعض الاختلافات الرئيسية كانت واضحة منذ بدايتها. كما شددت الأنثروبولوجيا التي نشأت من التاريخ الطبيعي، على الملاحظة الموضوعية وتوثيق ثقافات ما قبل الحداثة في محاولة لفهم المراحل التي مرت بها المجتمعات على المسار الخطي للحداثة، قبل اختفاء هذه المجتمعات وأساليب الحياة تمامًا.

ومن ناحية أخرى، كانت التنمية معنية إلى حد كبير بالحضارة وفرض التغيير على أساليب حياة الناس، حتى في أشكالها المبكرة ما قبل العلمانية. حيث كان أحدهما تدخليًا مباشرًا، بينما رفض الآخر التدخل، مما دفع البعض إلى الإشارة إلى التنمية على أنها “التوأم الشرير” للأنثروبولوجيا. لكن هذا التقسيم البسيط خضع لتحدي كبير بعد سقوط الاستعمار.

الأنثروبولوجيا والتنمية بعد الاستعمار:

شكلت نهاية الحقبة الاستعمارية بداية فترة أزمة للأنثروبولوجيا. فمنذ بداية هذا المجال، عمل علماء الأنثروبولوجيا بشكل كبير مع الحكومات الاستعمارية لإجراء أبحاثهم، وغالبًا ما تم تغذية الأفكار الأنثروبولوجية لتقوية الشرعية الاستعمارية. ولقد تحدى سقوط الاستعمار بشدة فكرة المسار الخطي الفردي للحداثة، والتي مثلت الحضارة قمتها. حيث لم يعد العديد من علماء الأنثروبولوجيا الذين نظروا مباشرة إلى الآثار المدمرة والقمعية للاستعمار على الثقافة المحلية، يجدون أنه من المقبول أن يرتبطوا بمفاهيم عن الحضارة والتقدم.

كما بدأت النقاشات أيضًا في الظهور حول الأهمية السياسية لتركيز أبحاثهم الذي تأسس على مفهوم النسبية الثقافية، والذي جعل جميع الثقافات صحيحة. حيث كان هذا بمثابة بداية فترة من النقد الذاتي المكثف داخل الأنثروبولوجيا، وستظل الأهمية السياسية قضية مثيرة للجدل.

فكانت نهاية الاستعمار بمثابة ولادة متزامنة للتطور الحديث في الأنثروبولوجيا والتنمية، كما وقع حدثان رئيسيان نتيجة لذلك:

1- الحكومات الاستعمارية التي كانت مصدرًا رئيسيًا لتمويل البحوث الأنثروبولوجية للتنمية، لم تعد توفر نفس الموارد، وتناقص أهمية الأنثروبولوجيا أيضًا في انخفاض في عدد المناصب الأكاديمية المتاحة لعلماء الأنثروبولوجيا.

2- أدت ولادة “التنمية كمساعدة” إلى تكاثر منظمات المعونة الغربية والعديد من الوظائف التي رغبت في الخبرة الميدانية والحساسيات الثقافية والقدرات اللغوية لعلماء الأنثروبولوجيا. حيث بلغت هذه التطورات ذروتها في أن أصبح التطور هدفًا أساسيًا للنظرة الأنثروبولوجية.


شارك المقالة: