نتائج الحضارة الإسلامية في العصر العباسي:
رفرف لواء العدل والحق فوق الأراضي التي حكمها المسلمون فعاش الناس في رغدٍ ورخاءٍ وأمنٍ وطمأنينةٍ وهذا ما فسح لهم المجال كي يركبوا متن الحضارة، وهل الحضارة سوى تحقيق المعاني الإنسانية كي ينعم أفراده بالسعادة.
وعرف الخلفاء العباسيين من عقيدتهم معنى الحياة ومُهمة الإنسان فيها فانطلقوا يؤدون دورهم فعملوا على إنهاء الظلم من وجه الأرض، وفي إخراج سكان هذا الكوكب من عبادة العباد، وعبادة المال، وعبادة الشهوات، إلى عبادة الله الواحد القهار الذي لا شريك له ولا معبود سواه، وخرجوا صادقين مخلصين من مركزهم الأول يدُكّون عروش الظلم، ويقدّمون للمجتمعات المعاني الإنسانية فكانت الفتوحات الإسلامية الواسعة.
وحصل المسلمون فيها على ما يريدون من تحقيق مهمتهم في الحياة فنال الشهادة منهم من نالها، وعاش بنعيم بعد النصر من كتب الله له الحياة، هذا بالإضافة إلى المغانم الدنيوية الأخرى والتي لا تُذكر أمام ما ينتظر الإنسان من جنات النعيم في الآخرة ومن هذه المغانم الأموال، والأملاك، والأرضِ، والخدم، والسبايا، وإذا كانت هذه كلها قد أفاد منها المسلمون فى عصر صدر الإسلام إلا أنهم كانوا يُطبّقون فيها شرع الله.
فكانت الأموال تنفق في سبيل الله والأملاك والأرض يذهب جزء كبير من مواردها في سبيل الله ويُعامل الخدم المُعاملة الإسلامية الطيبة من حيث الحقوق والرفق بهم، وإطعامهم، وكسوتهم، ومبيتهم، وكل جوانب حياتهم حتى لم يعد يشعر هؤلاء الخدم أو الرقيق أنهم من طبقةٍ خاصة، ولم يذكروا بعد ذلك حياتهم الأولى بشيء من الفارق، ولعلنا نذكر كيف رفض زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهو فتى يافع أن يذهب مع أبيه وعمّه.
وفضّل البقاء عند مولاه محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، لما رأى منه ومن معاملته وعجب أبوه وعمّه من إنسانٍ يؤثر العبودية بمفهومهم على الحرية، وفي الإسلام لا توجد طبقات اجتماعية وإنما يشعر الناس جميعا في ظل الإسلام أنهم متساوون ضمن أُسرةٍ واحدةٍ ساداتهم كآبائهم بهم رُحماء، ويتزوجون ويعيشون مع زوجاتهم كَكُل أُسرةٍ في بيئتهم لهم واجبات وعليهم حقوق، وككل أفراد المجتمع لا فرق بينهم ولا تمييز.
وبهذا فقد استفاد المسلمون بما منحهم الله بالطريقة السليمة التي لا عوج فيها ولا اختلال والتي يجب أن يتبعها بنو الإنسان. وتوقفت الفتوحات لأمر يُريده الله ولم ينه المسلمون مهمتهم كاملةً في الحياة إذ بقيت بعض عناصر الظلم متحكمة في مناطق كبيرة، وبقيت بعض الطواغيت متسلّطة في بعض جهاتٍ من العالم، وانصرف المسلمون عندها إلى حياتهم الخاصة، منهم من انصرف إلى تجارته يُنميها فكان تاجراً أفاد من دنياه بما جنى من أرباح، وأفاد لأُخراه بما عمل وقدّم وبذل في سبيل نشر الإسلام.
ظواهر الحضارة الإسلامية في العصر العباسي:
إذ انتشر الإسلام بالتجارة والدعوة كما انتشر بالجهاد والفتح، ومنهم من انصرف إلى أرضه فأحياها وعمّرها فخدم نفسه بما حصل عليه وخدم الأمّة بما قدّم لها من خيرات الأرض وبركاتها، ومنهم من اتجه إلى العلم فنهل منه ما شاء الله له أن ينهل، ودفع بمركبة العلم شوطاً إلى الأمام.
فتُرجمت علوم السابقين وأضيفت إليها إضافات واسعة، وتفتّقت عبقريات، واستنيطت أحكاماً، ووضحت أُموراً على غاية من الأهمية، وتسابق الحكام إلى تقريب العلماء وتشجيعهم على البحث، وتأسيس المكتبات، وتقديم الدعم والعون لأهل العلم في كثير من الأحيان، وإن كان بعض هؤلاء العلماء يرفضون كل شيء وأحياناً حتى الصلة، فكانت نتاج ذلك العلم ثروةً ويساراً وخيراً مدراراً.
وكانت عواصم الدويلات ومركز الخلافة مراكز إشعاع للعلم ومناراً يُنير درب السالكين، ومن الحكام من بنى وشيّد، بنى للعلم دوراً وشيّد قصوراً، وعمّر مساجد، وأسس خانات، على طرق المسافرين لإيوائهم وراحتهم، وتنافس الأُمراء في ذلك فكانت حواضرهم مُتعةً. هذه الثمار كانت نتاج الحضارة التي سبقت هذا العصر وليست هي الحضارة كما يُصوّرها لنا الماديون ويوهموننا بذلك.
وفي الفتره نفسها فقد انتقلوا بعض الناس إلى ترفهم ولعبهم فمنهم من مال إلى الغناء ومنهم من مال إلى الطرب، ولحنوا، وشربوا، وعاشوا، في دوامة الحياة يدورون معها أو تدور بهم، وغبّوا من الهوى ما شاء لهم هواهم أن يغبّوا كل هذا على حساب ما جُلب من رقيق كانوا بالأمس أحراراً، فكان هذا الرقيق أداة إنتاجهم وعملهم، وخدم لهوهم ومجونهم، إذ زرع لهم الأرض كما رغبوا، وصنع لهم ما بغوا، وعمل في مختلف مجالات العمل، يدور لهم كالرحى ويأخذون ما ينتج.
وعاشوا هم على ما بذل هذا الرقيق فكان منهم من يشقى ويتعب ومنهم من يسعدون، فنقم الرقيق على أسياده وتصرفاتهم وحقد عليهم، ثم تحرّك وثار فكانت الفتن وكان البلاء . وبرز هؤلاء اللاهون في المجتمع لنعيمهم أو شقائهم الذي هم فيه حتى أعطوا العصر سمتهم فأضيفت هذه الرفاهية (نتيجة الجهل) إلى نتاج ما سيق من حضارة.
وظنَّ أنهُ جزء من نتاجها وثمارها والواقع أنه كان الترف والبطر، وكان الفساد، وكانت النتيجة الضياع والانهيار لا للحضارة التي ظهرت من قبل فحسب وإنما للأمة جميعاً، إذ من أخذ نعم الله وأدّاها حقّها كانت له خيراً وكانت حضارةً، ومن بَذَلَ ذلك فى سبيل هواه كانت النعمة نقمة، وكانت العاقبة شراً ليس عليه فقط وإنما على أفراد الأُمة جميعاً الذين لم يأخذوا على يده ولم يردعوه من غيّه وكان ذلك دماراً وبؤساً وشقاءً.