فلسفة إدموند بورك السياسية لتشكيل الدولة

اقرأ في هذا المقال


“الممثلك مدين لك ليس صناعته فقط، بل حكمه، حيث هو يخونك بدلاً من خدمتك إذا ضحى برأيك”.

إدموند بورك

نظرة فلسفية لإدموند بورك على الدستور:

كل الآراء السياسية لبورك أو كلها تقريبًا هي في جوهرها أجزاء من نزعته المحافظة وفكرته عن الدستور ليست استثناءً، بل ينعكس تراكم المعرفة والثقافة للأمة في الدستور، وعلى هذا الأساس عارض بورك بشدة محاولة الثوار الفرنسيين وضع دستور جديد.

من خلال سياسة دستورية والعمل على نمط الطبيعة تتلقى وتحافظ وتنتقل الحكومات وامتيازاتها بنفس الطريقة التي يتمتع بها المرء وتنتقل الممتلكات وحياته معه، ومؤسسات السياسة وخيرات الثروة وهبات العناية الإلهية تُورث للأفراد ومنهم وفي نفس المسار والنظام.

الدستور هو مستودع للتجربة الماضية ويوجه مسار العمل في المستقبل حيث إنّها استمرارية للعمل، وإنّ المخطط الكامل للدستور المختلط هو منع أي من مبادئه من أن يتم نقله إلى أبعد ما يكون من تلقاء نفسه، ونظريًا “سوف يذهب” (بورك)، والضوابط والتوازنات هي جوهر النظام، وكل جزء يحد ويتحكم في الأجزاء الأخرى، ومن ثم في “الدستور البريطاني هناك معاهدة دائمة وتسوية مستمرة وأحيانًا بشكل علني وأحيانًا مع مراعاة أقل”.

وهكذا يحاول إدموند بورك إنشاء تبرير فلسفي للدستور حيث أنّ التقاليد والأخلاق والخبرة وما إلى ذلك يتم نقلها وكلها تثري الحضارة وبهذه الطريقة يتوسع صندوق المعرفة والخبرة، ويتجسد هذا في نهاية المطاف في الدساتير والمؤسسات والعمليات السياسية.

ثم تحدث إدموند بورك عن النوع التوجيهي للدستور ودعونا نقتبس منه:

“دستورنا هو دستور إلزامي وهو دستور سلطته الوحيدة هي أنّه وجد وقتًا بعيدًا عن العقل وملكك وسيادتك وقضاك ومحلفوك وأعظمهم وصغارهم، وكلها إلزامية، وصلبة من جميع سندات الملكية ليس فقط للممتلكات ولكن للحكومة، حيث إنّه افتراض لصالح أي مخطط مستقر للحكومة ضد أي مشروع لم يتم تجربته وأنّ الأمة كانت موجودة منذ فترة طويلة وازدهرت تحتها.

والأمة ليست مجرد فكرة عن النطاق المحلي والتجميع اللحظي الفردي ولكنها فكرة الاستمرارية والتي تمتد في الزمان وكذلك في الأرقام والمكان، وهذا اختيار ليس ليوم واحد أو مجموعة واحدة من الناس وليس خيارًا صاخبًا ودوارًا بل إنّه اختيار متعمد للأجيال، وإنّه دستور تم إنشاؤه بما هو أفضل بعشرة آلاف مرة من الاختيار، وإنّها مصنوعة من ظروف ومناسبات وميول وتصرفات وعادات أخلاقية ومدنية واجتماعية خاصة للأشخاص الذين لا يكشفون عن أنفسهم إلّا في فترة زمنية طويلة “.

فيما يتعلق بنظرية الدستور ليس لدى بورك أي شيء إيجابي يقدمه بخلاف عرض وتأبين دستور إنجلترا، وفي هذا يرى القوى الاجتماعية والسياسية تعمل بانتظام وسهولة وفعالية الطبيعة نفسها، وتتمتع أجهزة الحكومة من الملك والبرلمان والمحاكم بسلطتها من القانون والأعراف السائدة في البلاد.

وربما لا يتفق الكثيرون من المفكرين والقراء مع وجهة نظر دانينغ، حيث شدد بورك على أنّ دستور أي بلد يجب أن يحتوي في حد ذاته على السمات المميزة للظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلد المعني، وصحيح أنّه بينما كان يتحدث عن الدستور كانت صورة الدستور البريطاني حية في ذهنه، إلّا أنّه حتى الآن لم تقم أي دولة في العالم بصياغة دستورها بشكل كامل متجاهلة التاريخ والتقاليد الماضية بالإضافة إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الغريب.

ومن ثم لا يوجد شيء مرفوض من وجهة نظر بورك، ومرة أخرى ليس من المستغرب أن يتبنى عدد كبير من الدول الدستور البريطاني كنموذج لهم ولكن بالطبع مع بعض التعديلات والتغييرات، ويقول سابين إنّ نظرية بورك للدستور تقوم على التسوية الفعلية لعام 1688 والتي من خلالها انتقلت السيطرة السياسية الفعالة إلى أيدي نبلاء الويغ.

كان إدموند بورك ضد كل أنواع إصلاحات النظام البرلماني وكان هذا بسبب ولائه لنظام الحكم البريطاني، وقدم دعمه غير المشروط للبرلمان البريطاني آنذاك على أساس أنّه سيكون قادرًا على تلبية احتياجات الناس وزيادة رفاهية المجتمع.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه على الرغم من وفاة بورك ضد إدراج عناصر جديدة في الدستور البريطاني إلّا أنّ الحكومة البريطانية لم تستطع مقاومة مطلب الشعب المستمر لإدخال أفكار وعناصر جديدة في الجسم الرئيسي للدستور، ولكن بما أنّ الدستور البريطاني غير مكتوب فليس من السهل دائمًا التمييز بين العناصر القديمة والعناصر الجديدة المضافة، ومع ذلك لا يمكن إنكار دخول عناصر جديدة في صلب الدستور.

فلسفة التمثيل والحزب السياسي لدى إدموند بورك:

لفترة طويلة كان إدموند بورك عضوًا في مجلس العموم وأثبت نفسه كعضو برلماني ناجح وقدير وفي هذا الصدد فضل بعض الأفكار على وجه الخصوص كان لديه تصور واضح حول الدائرة الإقليمية ومسؤولية الممثل تجاه الناخبين في دائرته الانتخابية ورأى أنّ الدائرة الانتخابية لم تكن وحدة عددية أو إقليمية، حيث إنّها ليست مجرد منطقة إقليمية تتكون من أعداد معينة من الناخبين أو المواطنين، بل كان يعتقد أنّ التمثيل الافتراضي أي التمثيل الذي يوجد فيه اتحاد المصالح والتعاطف في المشاعر والرغبات يتمتع بمعظم مزايا التمثيل عن طريق الانتخاب الفعلي وخالي من أي عيوب.

وانتقد بورك النظام القائم للتمثيل وعقلية الممثل وتوقعاته وكان يرى أنّ الشكل التمثيلي الإنجليزي للحكومة لا يعمل بشكل مرضٍ بسبب النظام المعيب، ودافع بورك في خطابه أمام الناخبين في دائرته الانتخابية في بريستول عن استقلالية الممثل، كما رفض بورك المفهوم القديم للإقليميه.

من هو العضو البرلماني بفلسفة إدموند بورك؟:

بمجرد انتخاب الرجل من دائرة انتخابية معينة يجب اعتباره عضوًا في البرلمان وليس كممثل لتلك الدائرة الانتخابية المعينة، وينال بحكم عضويته حق تمثيل الوطن كله كما يُسمح له بممارسة حكمه وحريته.

عضو البرلمان ليس المتحدث باسم دائرته الانتخابية على الرغم من أنّه ملزم برعاية مصالح دائرته الانتخابية إلّا أنّه غير ملزم بفعل ذلك على حساب المصالح الوطنية وهو ليس سفير الدائرة ولديه وجهة نظر ومواقف، كما يجب أن يلتزم بمبادئه الخاصة ولا يمكن لأي ممثل أن يضحي بكل هذه الأشياء ومن غير المبرر أن نطلب منه القيام بذلك، والدائرة ليست مدرسة حيث سيذهب الأعضاء لتلقي الدروس من الناخبين وتقديم المشورة لمسار عمله في المستقبل.

كما ستكون له الحرية الكاملة في التعبير عن آرائه في البرلمان وقد يحدث أن يتعارض ذلك مع مصلحة ناخبيه، ولا يستطيع أخذ دروس حول القانون والحكومة من الناخبين، وهذا ما يؤكده إدموند بورك هنا هو أنّ عضو البرلمان يجب أن يتمتع بحرية الفكر والتعبير على الرغم من أنّه يمثل منطقة إقليمية ويجب أن يرى المصالح الوطنية.

كان رأي بورك فيما يتعلق بواجب ومسؤولية الممثل موضوع قدر كبير من الجدل لكن هذا الرأي لا يزال موضع نقاش جاد ورفض بورك قبول أنّ الممثل هو المتحدث باسم الدائرة الانتخابية، ولا يمكنه إهمال مصالح الجمهور الذي يمثله وفي نفس الوقت لا يمكنه أن يتعارض مع المصالح الوطنية، وقال إنّ من الواجب الأساسي للممثل إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية واليوم تغير الوضع.

كما يجب على الممثل الحكيم أن يوازن بين المصلحة المحلية والوطنية وإذا تجاهل تمامًا المصالح المشروعة للدائرة التي يمثلها فلن تسفر الانتخابات القادمة عن نتائج لصالحه، وقد وجد الممثلون على وجه الخصوص في الأنظمة الديمقراطية الضعيفة والمتطورة على أنّهم جادون بشأن قضايا ومشاكل جمهورهم، وبقدر ما يتعلق الأمر بالنهج الشامل للنظام التمثيلي فإنّ إدموند بورك صحيح تمامًا لكن نهجه له بعض القيود العملية.

مفهوم الحزب بوجهة نظر إدموند بورك:

ووفقًا لبورك فإنّ الحزب عبارة عن مجموعة من الرجال متحدون من خلال مساعيهم المشتركة لتعزيز المصالح الوطنية وبناءً على مبدأ معين يتفقون فيه جميعًا، ودافع بورك بقوة عن نظام الحزب ففي عصره اكتسب النظام الحزبي لمجلس العموم صورة واضحة مما خلق انطباعًا إيجابيًا عن أداء الحزب في ذهنه، ولقد أدرك أنّ النظام التمثيلي البريطاني لا يمكن أن يعمل بنجاح دون التطوير المناسب لنظام الحزب.

كما أيد ولاء كل رجل دولة لمبادئ وأيديولوجية الحزب والاعتبارات الخاصة في رأيه لن يسمح لها بكسر الولاء للحزب، ومن المثير للاهتمام أنه من النلاحظ أنّه على الرغم من دعم بورك استقلالية الفكر والحكم لأعضاء البرلمان إلّا أنّه لم يسمح بنفس الشيء لأعضاء الأحزاب السياسية.

وأكد إدموند بورك على مراعاة مبادئ الحزب وأيديولوجيته ولم يدعم أي انحراف، ويرجع ذلك إلى حقيقة أنّ بورك كان يحترم بشدة الحكومة الدستورية في إنجلترا وكان رأيه الواضح أنّه بدون حزب جيد التنظيم سينهار هذا، لذا كانت الحكومة بالنسبة له أهم من الحرية الفردية.

فلسفة مفهوم التحفظ لدى إدموند بورك:

من الملاحظ بشكل عام أنّ انتقادات بورك للحركات السياسية الشديدة نيابة عن الديمقراطية في أوروبا خلال فترة وجوده تشكل أساس التقاليد السياسية الحديثة التي تسمى عادة بالمحافظة، ويحتوي انعكاس ثورة فرنسا (1790) على الفلسفة السياسية المحافظة لبورك، ولا ينبغي بذل أي محاولة لتدمير التقاليد القديمة والحضارة لأي مجتمع فالحكومة والدستور كلاهما نتاج تقاليد قديمة.

إنّ موقف بورك تجاه الأيديولوجيا مفيد لفهم النزعة المحافظة وكان بورك ضد الإيديولوجيا على هذا النحو لأنّ الأيديولوجيات تبالغ في تبسيط وتضخم الظروف الاجتماعية الفعلية، وأسوأ من كل الشعارات مثل الحرية والحقوق الطبيعية هي خطرة على المجتمع وسلاح الثوار والمصلحين الذين لا يحترمون تقاليد وحضارة البلاد، وإنّهم لا يهتمون أيضًا بعواقب ثوراتهم.

فلسفة وتأملات إدموند بورك في الثورة الفرنسية:

أثار بورك في تأملات في ثورات فرنسا الأسئلة التالية التي كانت إجابتها “لا”.

  • هل يجب أن أهنئ رجلاً مجنونًا هرب من ظلماته الحامية والصحيحة على إعادته إلى التمتع بالحق والحرية؟
  • هل أهنئ طيار وقاتل قام بتفكيك السجون بعد أن استعاد حقوقه الطبيعية؟

يكشف هذان السؤالان عن موقف بورك تجاه الحقوق والحريات المجردة بالإضافة إلى الأيديولوجية حيث كان من خلال التعليقات أنّ بورك المحافظ يمثل مناهضة للأيديولوجية، فهو على الأقل ينتقد بشدة معظم الأفكار السياسية خاصة تلك التي تحث على الإصلاح الاجتماعي والتغيير الاجتماعي، ولكن حتى معاداة الأيديولوجية لا يمكن التعبير عنها بدون أفكار، والفكرة الأساسية لتحفظ بورك هي الحفاظ على الماضي.

كما أنّ تدمير الماضي وإدخال حداثة أمر ضار، فقد شعر بورك أنّ هناك “حقائق” معينة لا شك فيها، وإحدى هذه الحقائق هي أنّ الرجال بطبيعتهم غير متساوين وأنّ المجتمع يتطلب أنظمة وطبقات من أجل خير جميع البشر، فالإنسان هو مخلوق الشهية والإرادة وهو محكوم بالعاطفة أكثر من العقل، ويعتقد بورك أيضًا أنّ الدساتير والمؤسسات والأشكال السياسية الأخرى لها تاريخ أو خلفية طويلة وتقاليد، وإنّها ضرورية للمجتمع ويجب الحفاظ عليها بأي ثمن، وبسبب تحفظ إدموند بورك لم يوافق على المحاولات الثورية وانتقد بشدة الثوار الفرنسيين.

المصدر: A Philosophical Enquiry Into the Sublime and Beautiful, Author Edmund Burke, Editor James T. Boulton, Edition 2, reprint, Publisher Routledge Classics, 2008.Reflections on the Revolution in FranceEdmund Burke, from A Philosophical Enquiry into the Origin of Our Ideas of the Sublime and BeautifulEDMUND BURKEEdmund Burke and Reason of StateEdmund Burke: Bio, Life and Political Ideasالثورة الفرنسية، لويس عوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.


شارك المقالة: