كاستورياديس وفلسفته في الانفصال عن الماركسية ونظرية الكائن الحي

اقرأ في هذا المقال


مثل العديد من اليساريين المناهضين للشمولية حاول الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس في البداية فصل السمات السيئة لشيوعية القرن العشرين عن المعنى الحقيقي للماركسية، ومع ذلك بحلول منتصف إلى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي جاء ليقول إنّ النقد العميق للبلدان الشيوعية القائمة يتطلب أيضًا نقدًا لفلسفة ماركس، واستندت كل من الرأسمالية والماركسية والتجربة السوفيتية إلى مجموعة مشتركة من الافتراضات المسبقة، بالإضافة إلى تفكيره في الإبداع البشري الاجتماعي والفرد قادته رؤية كاستورياديس لـ(الوجود كخليقة) إلى تطوير نظريات حول الكائنات الحية غير البشرية.

الخيال الاجتماعي المشترك:

اقترح تحليل كاستورياديس للهيكل المؤسسي للاتحاد السوفيتي والذي تم جمعه لاحقًا في المجتمع البيروقراطي (La Société Bureaucratique)، وأنّ الاتحاد السوفييتي يهيمن عليه مؤسسة عسكرية بيروقراطية أطلق عليها كاستورياديس الرأسمالية البيروقراطية الكلية (TBC)، ويشير هذا الاسم إلى أنّ مبدأ النظام الاجتماعي في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية هو حقًا نظير -وإن كان نظيرًا أكثر مركزية- للنظام الرأسمالي الغربي، والذي أطلق عليه كاستورياديس الرأسمالية البيروقراطية المجزأة (FBC)، ثم جادل كاستورياديس بأنّ كلا من (TBC) و(FBC) متجذران في خيال اجتماعي مشترك.

تم التعبير عن هذا الخيال الاجتماعي المشترك بين (TBC) و(FBC) كرغبة في السيادة العقلانية على الذات والطبيعة، وافترض كل من الفكر الرأسمالي وماركس أنّ رأس المال له سلطة هائلة بل كاملة على البشرية، وأدى هذا الافتراض إلى رغبة مفرطة لدى الجانبين للسيطرة على قوتها المفترضة، ولهذا السبب سعى أتباع ماركس إلى إنشاء نظام بيروقراطي شمولي يمكنه نظريًا أن يكتسب السيادة على السيد.

ومع ذلك ووفقًا لتحليل كاستورياديس فإنّ الاستغلال الموجود في المجتمع الغربي لم يتم حله بواسطة نظام السيطرة هذا، وبدلاً من ذلك تم تقديمه بشكل أكثر شمولية وسحقًا، وأصبحت الطبقة الإدارية البيروقراطية قوة موحدة وقمعية في حد ذاتها تسعى وراء مصالحها الخاصة ضد الشعب، ومن ثم خلص كاستورياديس إلى أنّ الجهود النهائية للدول الشيوعية لاكتساب السيادة العقلانية لم تكن قابلة للفصل حقًا عن فلسفة ماركس السابقة، ونشأت هذه الفلسفة نفسها من الخيال الاجتماعي المشترك الذي تشترك فيه (TBC) و(FBC)، أي الرغبة في السيطرة الكاملة على الطبيعة والتاريخ من خلال التحكم في رأس المال.

كاستورياديس ونقده لفكر ماركس:

كما طور كاستورياديس انتقادات أكثر تحديدًا لافتراضات ماركس الاقتصادية، وفي الواقع في وقت مبكر من عام 1959 بعنوان (الرأسمالية الحديثة والثورة) هاجم طريقة ماركس في معاملة العمال كما لو كانوا تروسًا في آلة الرأسمالية، وجادل بأنّ ماركس فشل في النظر في أهمية الإجراءات العرضية غير المخطط لها للبروليتاريا، وهي أفعال قوية بما يكفي لإنقاذ الشركة من سوء الإدارة أو دفعها إلى كارثة.

بعبارة أخرى كان تحليل ماركس للرأسمالية شديد الحتمية، ولا تخضع القرارات الإبداعية للعمال لقوانين رأس المال بشكل صارم، وبدلاً من ذلك يدعم العمال أو يدمرون الرأسمالية نفسها من خلال أفعالهم، وعلى هذا النحو يمكن أن تؤدي تصرفات العمال -بشكل فردي وجماعي- إلى تغييرات في قوانين النظام ذاتها.

نتيجة لذلك وجد كاستورياديس أنّ وجهة نظر ماركس للتاريخ كانت مبنية على افتراضات معيبة، ولا يمكن تفسير تصرفات العمال بشكل كافٍ من خلال القوانين المفترضة للديالكتيك التاريخي، ويمكن للعمال أنفسهم أن يقرروا قانون التاريخ بدلاً من مجرد أن يقرره قانون التاريخ، وعلى هذا النحو فإنّ النظرية الكلاسيكية للانهيار الحتمي للرأسمالية إلى الاشتراكية ثم الشيوعية لا يمكن أن تستمر.

كاستورياديس والمجتمع المستقل:

اتفق كاستورياديس مع ماركس (وأشاد بتحليل ماركس بعيد المدى) على أنّ تاريخ الرأسمالية مليء بالأزمات وما يسمى بالتناقضات، فقد اختلف مع استنتاج ماركس للتطورات التاريخية المستقبلية من تلك الأحداث، وإنّ نتيجة الأزمة الرأسمالية تتحدد في الحقيقة من خلال كيفية تعامل الأفراد والمجتمع مع تلك الأزمات، وليس من خلال أي تنمية ذاتية داخلية ضرورية للرأسمالية نفسها.

انطلاقًا من هذه المشاركة مع ماركس بدأ كاستورياديس في تطوير وجهة نظره الخاصة حول كيفية نشوء مجتمع مستقل، وقال إنّ المجتمع المستقل هو من صنع الفرد الفردي والجماعة، ولا يمكن استنتاجها أو تطويرها بشكل كافٍ من الميول أو الإمكانات أو المستحيلات أو الضرورات الموجودة في النظام الحالي، وفي حين فسر ماركس نضالات العمال من أجل الاستقلال كجزء من التطور الذاتي العقلاني للرأسمالية نفسها، وأكد كاستورياديس على النقيض من ذلك على الصدفة الحقيقية للنجاحات التاريخية للنضالات الديمقراطية التحررية.

كانت هذه النضالات قد سبقت الرأسمالية وخضعت في ظل الرأسمالية والعصر الحديث للسيطرة العقلانية، وما زالت موجودة ولكنها أيضًا خافتة إلى حد كبير في العصر المعاصر لـ(TBC) و(FBC)، وبالتالي فإنّ انفصال كاستورياديس عن ماركس هو قطيعة مع الرغبة في اكتساب السيادة على القوى المفترضة التي تتحكم في البشرية والتاريخ.

الكائن الحي وعالمه السليم:

في حالة الذات اليوم اعتبر بدوره الكائن الحي والنفسية والفرد الاجتماعي وأخيراً المجتمع البشري مجادلاً بأنّ كل منها عبارة عن طبقة متميزة ولكنها تفاعلية من الوجود، وفي حين أنّ الكائن الحي (مثلًا الإنسان) مشروط بتفاعله مع الكائنات الحية الأخرى والاعتماد عليها، ومع ذلك لا يمكن اختزال أي طبقة من الكائنات الحية (مثل البشرية) إلى أي طبقة أخرى، ولا يمكن تصور الحياة البشرية بدقة على أنّها مجرد تعبير عن حياة الخلية مثلًا، وتتضمن كل طبقة نوعًا فريدًا أصليًا من الكائنات الحية أو الوجود لذاته، والتي تعتمد عليها ولكنها لا تحددها بأي حال من الأحوال الطبقات الأخرى التي تتفاعل معها.

بدءًا من المستوى الخلوي وصف كاستورياديس الكائن الحي بأنّه مبدع في عالمه الخاص لأنّه يعتمد على كائنات وعوالم أخرى تصلح، وعلى هذا المستوى تحدث كاستورياديس مع عالم الأحياء التشيلي ومؤيد نظرية التكوين الذاتي فرانسيسكو فاريلا، وبالنسبة إلى فاريلا وكذلك بالنسبة إلى هومبرتو ماتورانا يعني الخلق التلقائي أنّ كل كائن حي يخلق لنفسه عالماً من الإغلاق، ويعتمد الكائن الحي بشكل أساسي على الكائنات الحية التي تشترطه، والكائنات العليا هي تعبيرات عن الإمكانات الكامنة في المكونات الدنيا.

اتبع كاستورياديس فاريلا فيما يتعلق بالخلق الذاتي للكائن الحي وعالمه الصحيح، بحجة أنّ لا شيء يدخل إلى العالم الصحيح للكائن الحي دون أن يتحول بواسطته، ومع ذلك بالنسبة إلى كاستورياديس لم يكن للإنشاء التلقائي أن يستلزم نوعًا من الإغلاق التنظيمي، وبعض الكائنات الحية مبدعة بشكل جذري في طبقات جديدة غير قابلة للاختزال من الحياة وتعتمد فقط على الآخرين لإبداعاتهم، فهم ليسوا مجرد تعبيرات لتلك الطبقات الأخرى.

حتى الطبقة الأساسية للحياة الطبيعية (التي أطلق عليها كاستورياديس الطبقة الطبيعية الأولى) هي مجرد شرط لظهور الكائنات الحية الأخرى، وإنّه ليس شيئًا يقرر أو يحدد أو ينتج ما هي تلك الطبقات الأخرى.

وهكذا لم يتعامل كاستورياديس مع إبداع الكائن الحي على أنّه مجرد نسخة أكبر أو أصغر من الكائنات الحية الأخرى، وإنّ الخلق البشري لعالم مناسب على سبيل المثال يكسر بشكل خلاق من الإغلاق المتعلق بالظروف الداعمة له (داخليًا أو بيئيًا) ويقطع الاستمرارية حتى مع نفسه في بعض الأحيان، ويخلق البشر طبقة جديدة من كونهم غير قابلين للاختزال للآخرين، فنحن دائمًا نشيطون ومتفاعلون مع الطبقات الأخرى، ولكن النفس البشرية تخلق بطرق لا يمكن احتواؤها في الحالات الأمامية للكائنات الحية الأخرى أو في ظروفها الموروثة، ويخلق البشر طبقة جديدة ومشتركة ومتميزة من الحياة.

وهكذا جادل كاستورياديس من وجهة نظر بيولوجية أنّه من الممكن تمامًا التأكيد حقًا على أنّ كل شيء تفاعلي، ومع ذلك فقد أصر على أنّه لا يمكننا لهذا السبب ببساطة أن نقول أنّ كل شيء يتفاعل مع كل شيء، وكل ما هو مناسب للعالم البشري يتفاعل مع بعض الطبقات الأخرى، ولكن فقط بعض ما هو مناسب للعالم البشري يشترك في شيء مشترك مع جميع الطبقات الأخرى.

المصدر: Cornelius Castoriadis (1922—1997)Cornelius CastoriadisCastoriadis, Cornelius. A Society Adrift: Interviews and Debates, 1974–1997. Trans. Helen Arnold. New York: Fordham University Press, 2010.Castoriadis, Cornelius. Crossroads in the Labyrinth. Trans. Martin H. Ryle and Kate Soper. Cambridge: Cambridge University Press, 1984.Castoriadis, Cornelius. Figures of the Thinkable. Trans. Helen Arnold. Stanford, CA: Stanford University Press, 2007. Castoriadis, Cornelius. On Plato’s Statesman. Trans. David Ames Curtis. Stanford, CA: Stanford University Press, 2002.


شارك المقالة: