القواعد المنهجية عند ابن خلدون في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


القواعد المنهجية عند ابن خلدون في علم الاجتماع:

إن من يستعرض مقدمة ابن خلدون لا يجد فصلاً أو جزءاً محدداً بعنوان المنهج أو القواعد المنهجية، ومع ذلك فليس من الصعب على القارئ أن يستخلص هذه القواعد بوضوح، وإذا ما جمعت في إطار واحد لشكلت كما فعل بعض الدارسين إطاراً منهجياً فريداً ومتكاملاً، ولعل من الممكن الإشارة إلى هذه القواعد بشيء من الإيجاز:

  • الاستزادة من العلم: يرى ابن خلدون أن هذه القاعدة العامة أساسية لكل من يريد أن يشتغل بالبحث العلمي، والباحث كما يرى ابن خلدون يحتاج إلى عدد متنوع من المعارف العلمية التي تنير له طريق الفهم والتحليل، فلا بدّ في هذه المسألة من الإطلاع في مجالات السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الشعوب، والسير والأخلاق والعادات، وقياس ذلك كله على شعوب متفرقة لمعرفة ما بينها من اتفاق أو اختلاف، ويشير ابن خلدون إلى أنه طبق هذه القاعدة على نفسه ولولاها ما بلغ الفهم والوعي وعمق التحليل الذي ظهر في آرائه ومؤلفاته.
  • التعرف على طبائع العمران البشري: وهي قاعدة عامة أخرى ألزم ابن خلدون نفسه بها، فهي تعتمد على محاولة الإحاطة الواسعة بشتى العلوم، والتعمق فيها فقد ميز في هذا المجال بين التجمعات الإنسانية أو البشرية التي تتعاون فقط من أجل الحصول على ضروريات الحياة، والتجمعات التي تشكل مجتمعاً متفاعلاً متغيراً تحكمه نظم السلوك الجمعي، وينخرط أفراده في جماعات هادفة تخلق لنفسها تراثاً وثقافة، ويرى أن الصورة الأولى مجرد اجتماع عادي يمهد للعمران البشري المنظم الذي يظهر فيه آثار النظم الاجتماعية، والعلاقات والتفاعلات بين أفراده ويؤسسون أنماط سلوكهم وعاداتهم، أو طبائعهم الخاصة، ويدخل في هذا الإطار ما يصيب المجتمع من تغيرات أشار إليها ابن خلدون على أنها تبدلات وعدم استقرار في طبائع الأمم والشعوب، فتنتقل من حال إلى حال، وهذا التغير يصيب الأفراد والنظم والدول.
  • التشكك كمقدمة لليقين: يشير ابن خلدون إلى أن الكثير من الروايات يشوبه الكذب وعدم الدقة، كأن يتملق الراوي أصحاب المكانة، والمرتبة العالية وميل النفس لقبول ما يلائمها حتى لو كان كذباً، أو أن يسلم المرء بصدق ناقل الرواية نتيجة الثقة فيه، فيقبل ما يقوله دون تمحيص كذلك فقد يكون ناقل الخبر قد فهم ما سمع على نحو غير سليم، وإضافة إلى ذلك فقد يؤدي الجهل بالقوانين الطبيعية إلى التصديق الأعمى، وهذا كثيراً ما يؤدي إلى وقوع المؤرخين في الخطأ. ومن هنا يؤكد ابن خلدون على أن التشكك يفتح الباب لمراجعة الأخبار، والروايات والتدقيق فيها، ومطابقتها على طبائع الأشياء وعلى القوانين الطبيعية، وقوانين العمران، حتى يتبين ما قد يشوبها من خطأ أو كذب، أو عدم دقة، أو عدم فهم ولعل الحرص على تنقية التاريخ من الشوائب، قد أدى بابن خلدون للتوصل إلى عمله الجديد، ذي القوانين الجديدة، والفهم الجديد، ألا وهو علم العمران.
  • التحليل العقلي: وتلك إحدى القواعد التي أكد عليها ابن خلدون في كتاباته فهو يرى أن العقل يتحكم في رفض الروايات والأخبار التاريخية أو قبولها، وقد رفض ابن خلدون كثيراً من الروايات ﻷنها لم تستقم مع منطق التحليل العقلي، فهناك روايات إذا أمعنا فيها النظر والتأمل العقلي، نجد أنه من العسير القبول بها أو بما احتوت عليه من أخبار وتفاصيل، ومن السهل على العقل الذي تسلح بالمبادئ السابقة أن يتوصل إلى قبول ما هو ملائم، ورفض ما ليس كذلك من الأخبار والسير.
  • التأكد الحسي: إلى جانب التحليل والتأكد العقلي، يشير ابن خلدون إلى التحقق بالمشاهدة أو الملاحظة اعتماداً كبيراً في الكثير من أعماله ويوصى بقياس الغائب عن الملاحظة بالمشاهد منها.
  • منطق المقارنة: لعل المقارنة من بين المناهج الأساسية في دراسات علم الاجتماع، فهي تساعد في الكشف عن أوجه الشبه والإختلاف ثم الوصول إلى القوانين والمبادئ التي تحكم الظواهر الاجتماعية، وقد ظهر أثر هذا المنهج في دراسات ابن خلدون للفروق بين المجتمع أو العمران الحضري أو العمران الحضري والبدوي.

وقد كان التأكيد على التجريب من الإسهامات التي نقلت علم الاجتماع من ميدان الفلسفة الاجتماعية إلى ميدان العلم، وقد سبق بذلك الاكتشافات والتطورات العلمية بوقت كبير، فكثيراً ما أكد على أهمية المران والتدريب لاكتساب المهارات العلمية والصنائع والمعاملات فضلاً عن أنه لمس جوانب نفسية كثيرة في هذا المجال.

ولو أننا أضفنا هذه القاعدة المنهجية لقاعدة الملاحظة الحسية لتبين لنا كيف تلمس ابن خلدون الطريق لدعائم أكيدة واضحة للمنهج العلمي في علم العمران أو الاجتماع، الأمر الذي مكنه من استقراء كثير من الشواهد العامة في المجتمعات الإنسانية هذه وغيرها من القواعد المنهجية نجدها في ثنايا معالجات ابن خلدون لمسائل علم العمران، فاهتمامه بالتاريخ حفزه للعمل على ترسيخ قواعد التحليل التاريخي السليم، واهتمامه بالظواهر الاجتماعية حفزه للتأكيد على المشاهدة والمقارنة والتجريب، وفهم الوقائع في إطارها الزمني الخاص، بدلاً من فهمها في ضوء أحداث سبقت وانقضى زمانها.

المصدر: مناهج البحث العلمي، محمد الجوهري.محاضرات في تصميم البحوث، محمد سعيد فرح.علم الاجتماع الريفي، غريب سيد أحمد.أصول البحث الاجتماعي، عبد الباسط محمد حسن.


شارك المقالة: