كان برتراند راسل مشهورًا باعتباره عالمًا أخلاقيًا ومشهورًا كفيلسوف، إلّا أنّه لا يتمتع بسمعة طيبة كفيلسوف أخلاقي بالمعنى الأكثر تقنيًا للمصطلح، وذلك حتى وقت قريب جدًا كانت مساهماته فيما يعرف اليوم بالنظرية الأخلاقية، كالأخلاق الفوقية (طبيعة الأحكام الأخلاقية وتبريرها إن وجدت)، والأخلاق المعيارية (ما يجعل الأفعال الصحيحة صحيحة…إلخ)، إمّا غير معروفة أو تم تجاهلها أو رفضها باعتبارها غير أصلية.
توازن الخير والشر في فلسفة راسل:
من وجهة نظر راسل أنّ التصرف الصحيح في أي ظرف من الظروف، هو ذلك الذي من المحتمل أن ينتج في البيانات أكبر توازن بين الخير والشر، والقاعدة أو السياسة الصحيحة هي بالمثل تلك التي يمكن توقعها لإنتاج أفضل التأثيرات.
أي أنّ (X) صحيح وهو أمر يمكن تأكيده (تقريبًا أمر منطقي يمكن قوله) عندما يُتوقع أن تؤدي (X) إلى أفضل النتائج، ولكن إذا كانت عبارة: “(Y) جيدة” حقًا، ففي حالة مزاجية اختيارية ترقى إلى علامة التعجب: “هل يرغب الجميع في (Y)!”، فعندئذٍ عبارة: “(X) صحيح” تبدو اختيارية أيضًا، حيث إنّها تأتي إلى شيء مثل (X) يؤدي إلى المزيد مما يريده الجميع!
هنا الجملة: “يريده الجميع” والتي من الواضح أنّها في الحالة المزاجية تصيب الجملة بأكملها بطابعها الاختياري: “(X) يؤدي إلى المزيد مما من شأنه أن يرغب فيه الجميع!”، وبقدر ما يمكن فهمه لا يبدو أنّه من النوع الذي يمكن أن يكون صحيحًا أو خاطئًا.
ومع ذلك يعتقد راسل أنّ الأحكام حول ما هو صواب أو ما يجب القيام به يمكن أن تعطى تحليلاً يعطيها نوعًا من الموضوعية المبتذلة وبالتالي إمكانية الحقيقة، وإذا كان لدى ديمتري مفهوم محدد بشكل معقول عن الخير، أي مجموعة متماسكة من الآراء حول أي الأشياء جيدة وأيها سيئة.
فعلى الرغم من أنّ آراء دميتري نفسها ليست صحيحة ولا خاطئة، حيث لأنّها على الرغم من المظاهر فهي ليست آراء على الإطلاق لكن التعبيرات الاختيارية عن رغبات ديمتري، فإنّه يمكن مع ذلك أن يكون صحيحًا أو خاطئًا أنّ (X) جيد في رأي دميتري أي جيد وفقًا لديميتري.
“نعم أن أكون في إنجلترا الآن بعد شهر أبريل هنا!” ليس صحيحًا ولا خطأ، ولكن إذا قال المرء ذلك بصدق فسيكون في الواقع حقيقة أنّه يرغب في أن يكون في إنجلترا، وبالمثل إذا قال ديمتري أنّ: “القفز على البنجي الارتدادية جيد”، فإنّ ما يقوله لن يكون صحيحًا لأنّه حقًا في حالة مزاجية اختيارية، ولكن إذا قال ذلك بصدق فسيكون صحيحًا أنّ القفز على البنجي جيد وهو رأي ديمتري، أو هو رأي حسن حسب ديمتري.
وبالتالي على الرغم من عدم وجود حقائق حول أي الأشياء جيدة أو سيئة، إلّا أنّ هناك حقائق حول الأشياء التي يعتقد هذا الشخص أو ذاك أنّها جيدة أو سيئة، وعلاوة على ذلك وهذه هي النقطة الحاسمة هناك حقائق عن المسألة حول ما إذا كان من المحتمل أن يؤدي إجراء معين أو سياسة معينة إلى تعزيز ما يعتقد شخص ما أنّه أمر جيد.
فنظرًا لأنّ هتلر كان يعتقد أنّ الانتصار على بريطانيا سيكون أمرًا جيدًا، فقد كانت هناك حقيقة حول ما إذا كان قصف لندن بدلاً من قصف مطاراتسلاح الجو الملكي البريطاني من المرجح أن يؤدي إلى الأوضاع التي يرغب فيها.
وكما اتضح فيما بعد فإنّ السياسة التي انتهجها لم تسفر عن نتائج أفضل وفقًا لهتلر، ومن ثم إذا كان هتلر قد تبنى قراءة تبعية لكلمة (يجب) وفهرستها وفقًا لمتطلباته الخاصة، لكانت: “كان يجب أن أقصف لندن” (كما قال هتلر) كانت خاطئة، وكانت حقيقتها أو زيفها سؤالاً يمكن نقاشه بشكل واقعي.
الآن لنفترض أننا حددنا الفعل الصحيح فيما يتعلق بـ (B) ليس على أنّه ذلك الذي في البيانات من المحتمل أن ينتج أكبر توازن بين الخير والشر، ولكن على أنّه الذي في البيانات من المحتمل أن ينتج أكبر توازن بما يعتقده (B) أنّه خير على ما يعتقده (B) أنّه شرير.
سيتم تعريف القاعدة الصحيحة للسياسة فيما يتعلق بـ (B) بالمقابل على أنّها القاعدة أو السياسة التي من المحتمل أن تنتج في الظروف المناسبة أكبر توازن لما يعتقد (B) أنّه جيد على ما يعتقد (B) أنّه شر، وبعد ذلك طالما أنّ (B) لديها مجموعة متماسكة بشكل معقول من المثل العليا، فإنّ الادعاء بأنّ فعلًا أو سياسة معينة صحيحة أو خاطئة فيما يتعلق بـ (B) سيكون له عادةً قيمة حقيقة محددة.
الادعاءات من النموذج (X) صحيح بالنسبة لـ (B) ستكون إما صحيحة أو خاطئة، طالما أنّ الشخص (أو مجموعة الأشخاص) المعينين من قبل (B) لديه مجموعة واضحة ومتسقة من القيم، وبالتالي ستكون هناك حقيقة في المسألة حول ما إذا كان (X) صحيحًا بالنسبة لـ (B) والذي يمكن أن يكون موضوع تحقيق عقلاني.
وإذا كانت (B) تمثل لنا (أياً كان نحن) وإذا كنا نتشارك مجموعة متماسكة بشكل معقول من المثل العليا، فستكون هناك حقيقة حول ما إذا كان (X) صحيحًا أم خاطئًا فيما يتعلق بمثلنا العليا، وبالتالي إذا كان هناك اتفاق فيما يتعلق بالمثل العليا وإذا تبنينا مفهومًا عواقبيًا للصواب مفهرسًا ليس لما هو جيد ولكن لما نعتقد أنّه جيد عندها يمكننا إجراء مناقشة عقلانية وربما حتى استفسار علمي، وذلك حول الحقوق والخطأ في الإجراءات أو القواعد أو السياسات أو على الأقل حول صوابها أو خطأها فيما يتعلق بنا.
“تأطير القواعد الأخلاقية طالما كان من المفترض أن يكون الخير المطلق معروفًا، حيث كان ينبغي على راسل أن يقول: “من المفترض أنّه موافق”، هي مسألة تخص العلم، على سبيل المثال: هل يجب أن يعاقب بالإعدام على السرقة أم القتل فقط أم لا على الإطلاق؟
كرّس جيريمي بنثام الذي اعتبر أنّ المتعة هي الخير، فقد كرس نفسه للعمل على أكثر ما يمكن أن يعزز القانون الجنائي من المتعة وخلص إلى أنّه يجب أن يكون أقل شدة بكثير مما كان سائدا في أيامه، وكل هذا باستثناء الافتراض القائل بأنّ اللذة هي الخير يأتي في نطاق العلم”.
بمجرد الاتفاق على الغايات يمكننا إجراء مناقشة عقلانية حول الشفرة أو الرمز الذي يرجح أن يعزز تلك الغايات، وفي بعض الحالات يمكن حل مثل هذه الأسئلة عن طريق البحث العلمي أو بأي معدل من خلال الإحصائيات، ولكن (مع استثناء واحد أو اثنين) الحجة العقلانية ممكنة حقًا فقط عندما نأخذ الغايات كما هي ونحصر اهتمامنا على الوسائل.
الإصلاح الأخلاقي وعلاقته بالأخلاق الفوقية لدى راسل:
يمكن الآن أن نفهم ونلخص استراتيجية راسل العامة باعتباره مجادلًا للإصلاح الأخلاقي وعلاقته بالأخلاق الفوقية الانفعالية.
1- إنّ راسل يرفض الواجبات المفترضة التي لا يمكن منحها تبريرًا عواقبيًا على أنّها نتاج الخرافات البالية أو في بعض الحالات الدعائم الأيديولوجية للنخب المفترسة.
2- إنّ راسل يستخدم أساليب غير عقلانية للتبشير بصلاح بعض الغايات، وتلك حياة مستوحاة من الحب وتسترشد بها المعرفة، وتعكس الكون مثل موناد لايبنيز وما إلى ذلك وشر الآخرين، وهذه في الأساس عملية لجعل القراء يشاركونه رغباته.
3- ثم دافع راسل عن مدونة قواعد السلوك المنقحة التي من المحتمل أن تعزز تلك الغايات، وهنا يمكن أن يكون هناك حقيقة وزيف وبالتالي حجة عقلانية، ولكن فقط لأنّ (يجب) و(الحق) قد أعطيت قراءة تبعية وفهرستها حتى الغايات التي يرغب راسل في الترويج لها.