فلسفة دريدا في الإستراتيجية التفكيكية

اقرأ في هذا المقال


ينشغل الفيلسوف جاك دريدا (Jacques Derrida) مثله مثل العديد من المنظرين الأوروبيين المعاصرين بتقويض الميول المعارضة التي أصابت الكثير من التقاليد الفلسفية الغربية، وفي الواقع الثنائيات هي النظام الغذائي الأساسي للتفكيك لأنّه بدون هذه التسلسلات الهرمية وأوامر التبعية لن تترك مكانًا للتدخل، فالتفكيك طفيلي في ذلك بدلاً من تبني رواية كبرى أخرى أو نظرية حول طبيعة العالم الذي نشارك فيه، فهو يقيد نفسه بتشويه الروايات الموجودة بالفعل والكشف عن التسلسلات الهرمية الثنائية التي تخفيها.

فلسفة دريدا بين التفكيك والفلسفة:

بينما يمكن الطعن في ادعاءات فلسفة دريدا بأنّه شخص يتحدث فقط على هوامش الفلسفة فمن المهم أخذ هذه الادعاءات في الاعتبار، فالتفكيك إلى حد ما هو الفلسفة التي لا تقول شيئًا، وإلى الحد الذي يمكن أن يقترح فيه أنّ اهتمامات دريدا غالبًا ما تكون فلسفية، فمن الواضح أنّها ليست فينومينولوجية (يؤكد لنا أن عمله يجب أن يُقرأ على وجه التحديد ضد إدموند هوسرل وجان بول تشارلز أيمارد سارتر وميرلو بونتي) وليست فلسفة وجودية.

التفكيك وخاصة التفكيك المبكر يعمل من خلال الانخراط في التحليلات المستمرة لنصوص معينة، وإنّه ملتزم بالتحليل الدقيق للمعنى الحرفي للنص وأيضًا لإيجاد ضمن هذا المعنى، وربما في الزوايا المهملة للنص (بما في ذلك الهوامش) المشكلات الداخلية التي تشير في الواقع إلى معاني بديلة، ويجب أن يؤسس التفكيك منهجية تولي اهتمامًا وثيقًا لهذه الضرورات المتناقضة ظاهريًا (التشابه والاختلاف) وقراءة أي نص دريدي لا يمكن إلّا أن تؤكد هذا الجانب المزدوج.

يتحدث دريدا عن الجانب الأول من هذه الإستراتيجية التفكيكية على أنّها أقرب إلى الإخلاص والرغبة في أن نكون مخلصين لموضوعات التفكير وسماعه، ومع ذلك في الوقت نفسه يستعير التفكيك أيضًا بشكل مشهور من مفهوم مارتن هايدجر (Martin Heidegger) لـ (الاسترداد المدمر) ويسعى إلى فتح النصوص على معاني بديلة ومكبوتة عادة تقع جزئيًا على الأقل خارج التقليد الميتافيزيقي (على الرغم من أنه دائمًا ما يكون مخطوبة جزئيًا أيضًا) هو – هي.

يتضح هذا الجانب الأكثر عنفًا وتجاوزًا للتفكيك من خلال نصح دريدا المتسق بأن: “تخترع بلغتك الخاصة إذا كنت تستطيع أو تريد أن تسمع لغتي، واخترع ما إذا كنت تستطيع أو تريد أن تُفهم لغتي”، وباقتراحه أنّ التفسير المخلص له هو التفسير الذي يتجاوزه فإنّ دريدا يثبّت الاختراع باعتباره جانبًا حيويًا مهمًا في أي قراءة تفكيكية.

كما إنّه عرضة لتقديم اقتراحات غامضة مثل: “اذهب إلى هناك حيث لا يمكنك الذهاب إلى المستحيل، وإنّه بالفعل الطريقة الوحيدة للمجيء أو الذهاب”، وفي النهاية تتمثل ميزة القراءة التفكيكية في هذا الاتصال الإبداعي مع نص آخر لا يمكن وصفها بأنّها مجرد إخلاص أو انتهاك مطلق بل تتأرجح بين هذه المطالب المزدوجة، ومع ذلك فإنّ الشيء المثير للاهتمام حول التفكيك هو أنّه على الرغم من حقيقة أنّ تفسيرات دريدا الخاصة لنصوص معينة جذرية تمامًا، فإنّه غالبًا ما يكون من الصعب تحديد أين ينتهي التفسير التفسيري للنص وأين يبدأ الجانب الأكثر عنفًا للتفكيك.

فلسفة دريدا واستنادها إلى النص:

يحجم دريدا دائمًا عن فرض (نصي) وتسميات (نصك) بشكل واضح جدًا في نصوصه، وهذا جزئيًا لأنّه من الصعب التحدث عن (عمل) التفكيك، لأنّ التفكيك يسلط الضوء فقط على ما تم الكشف عنه بالفعل في النص نفسه، وتكمن جميع عناصر التدخل التفكيكي في أحجار الزاوية المهملة لنظام موجود بالفعل، ولا يتم تغيير هذه المعادلة بأي طريقة مهمة سواء تم تصور هذا النظام على أنّه ميتافيزيقيا بشكل عام، والتي يجب أن تحتوي على غير ميتافيزيقية، والمسار أو كتابات مفكر معين والتي يجب أن تشهد أيضًا دائمًا على ما يحاولون استبعاده.

هذه بالطبع مواضيع تناولها دريدا مطولاً ولها نتائج مباشرة على المستوى الفوقي النظري، وإلى الحد الأدنى الذي يمكننا من الرجوع إلى حجج دريدا الخاصة، كما يجب أن ندرك أنّها دائمًا ما تتشابك مع حجج أي شخص أو أيًا كان يسعى إلى التفكيك، فعلى سبيل المثال يجادل دريدا بأنّ نقده للحظة هوسرليان (الآن) يستند في الواقع إلى موارد داخل نص هوسرل نفسه والتي تتجاهل الوجود الذاتي الذي كان يحاول تأمينه.

فإذا كانت وجهة نظر دريدا ببساطة هي أنّ فينومينولوجيا هوسرل تحمل في حد ذاتها استنتاجات فشل هوسرل في إدراكها، ويبدو أنّ دريدا قادر على التنصل من أي موقف متسامي أو وجودي، وهذا هو السبب في أنّه يجادل بأنّ عمله يحتل مكانًا في هوامش الفلسفة بدلاً من أن يكون مجرد فلسفة في حد ذاتها.

يؤكد التفكيك أنّه في أي نص هناك نقاط حتمية من المراوغة وعدم القدرة على اتخاذ القرار، والتي تخون أي معنى ثابت قد يسعى المؤلف إلى فرضه على نصه، وتكشف عملية الكتابة دائمًا ما تم قمعه وتغطي ما تم الكشف عنه وتنتهك بشكل عام المعارضات ذاتها التي يُعتقد أنّها تدعمها، وهذا هو السبب في أنّ فلسفة دريدا تستند إلى النص وهذا هو السبب أيضًا في أنّ مصطلحاته الرئيسية تتغير دائمًا، لأنّه اعتمادًا على من أو ما يسعى إلى تفكيكه ستظل نقطة الالتباس هذه موجودة دائمًا في مكان مختلف.

وهذا يضمن أيضًا أنّ أي محاولة لوصف ماهية التفكيك يجب أن تكون حذرة، ولا شيء سيكون أكثر تناقضًا للنية المعلنة للتفكيك من محاولة تعريفه من خلال السؤال الميتافيزيقي بالتأكيد في ما هو التفكيك؟ وهناك تناقض في محاولة حصر التفكيك على غرض معين وشامل، وعندما يكون مبنيًا على الرغبة في تعريضنا لما هو آخر تمامًا (tout autre) وفتحنا أمام الاحتمالات البديلة.

وفي بعض الأحيان سيخاطر هذا التفسير بتجاهل المعاني العديدة لتفكيك دريدا، والفرق المعترف به على نطاق واسع بين عمل دريدا المبكر والمتأخر هو مجرد المثال الأكثر وضوحًا للصعوبات التي ينطوي عليها اقتراح التفكيك يقول هذا أو التفكيك يحظر ذلك.

ومع ذلك يمكن ملاحظة بعض السمات المحددة للتفكيك، فعلى سبيل المثال مشروع دريدا بأكمله مبني على الاقتناع بأنّ الثنائيات موجودة بشكل لا رجوع فيه في مختلف الفلاسفة والحرفيين الذين يعتبرهم، وبينما يجادل بعض الفلاسفة بأنّه قليل الاختزالية عندما يتحدث عن التقليد الفلسفي الغربي، فإنّ فهمه لهذا التقليد هو الذي يُعلم ويوفر الأدوات للاستجابة التفكيكية، ولهذا السبب يجدر النظر بإيجاز في هدف تفكيك دريديان – ميتافيزيقيا الوجود أو إلى حد ما مركزية اللوغوسات.


شارك المقالة: